السبت 06 مايو 2017 18:51 م بتوقيت القدس
نظرت في "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" لحركة "حماس" الصادرة حديثا، وقارنتها مع وثيقة "ميثاق الحركة" الصادر عام 1988 فوجدتها أكثر نضوجا ووضوحا، وتعبر عن وعي ومسؤولية في معالجة محاور القضية الفلسطينية، غلب عليها الطابع الوحدوي التوافقي، على حساب الطابع الفصائلي التنازعي، وهي بكل تأكيد، أكثر إسلاميةً وفلسطينيةً وعروبيةً وأنسانيةً مما سبقتها. وعلى الرغم من الايجاز الواضح في صياغاتها مقارنة بالميثاق، الا انها جاءت أكثر شمولية وتحديدا للمواقف والرؤى السياسية والاجتماعية والدينية، بعيدا عن المعاني الفضفاضة والاقتباسات المفتعلة أحيانا كثيرة في الميثاق.
إن أهمية "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" الجديدة، لا تكمن في التفاصيل، بل في الرؤية العامة، والروح التي ترفرف في فضائها، ولغة الخطاب المحكمة فيها، التي تفهمها الجهات المحلية، الإقليمية والدولية. هكذا في وجهة نظري يجب أن تقرأ الوثيقة، وليس في التفتيش عن تناقضات متوهمة عند بعض المشككين في بعض التفاصيل. فاذا كانت حماس قد أعلنت عن قبولها بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67 -كصيغة توافقية وطنية مشتركة- غير متنازلة عن الحقوق التاريخية والقومية والدينية، فإنها في الوقت نفسه تضع الأسس والمبادئ العامة لحل الدولة الواحدة على كل أرض فلسطين.
ومع ذلك اعتقد ان الوثيقة لم تفلح في معالجة أمرين أساسيين بل جوهريين:
أولهما: فيما يتعلق بالمقاومة والفعل المسلح، لا افهم لماذا كان من الصعب ان يكون موقف حركة حماس واضحا في عدم استهداف المدنيين في عملياتها المقاومة، الا يعتبر هذا الموقف الشرعي والاخلاقي من بدهيات الشريعة الاسلامية وفقه الجهاد والقتال، فضلا عن ان نذكر ان العمليات التي استهدفت المدنيين بشكل متعمد او شبه متعمد، منذ بداية الكفاح المسلح، ارتدت اثارها السلبية على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
ما يشفع لحماس في هذا الباب انها فعلا تجنبت المساس بحياة الأطفال في بعض عملياتها في الضفة الغربية، ورغم ذلك اعتقد انه كان من المهم والمناسب تضمين هذا السلوك الفعلي، كمبدأ من مبادئ الحركة ومقاومتها، تماما كما هي وصايا الرسول الأكرم والخلفاء الراشدين لقيادات الجند في الاسلام.
ثانيهما: افتقدت موقفا واضحا ومبدئيا من حركة حماس في وثيقتها، فيما يتعلق باحترام المواثيق والعهود والاتفاقات الدولية، على الرغم من موقفها المتقدم في اعتبار المؤسسات والجهات الدولية.
هذا المبدأ بإطلاقه هو حجز زاوية في ادارة العلاقات الدولية، وهذا لا يعني الرضوخ لإملاءات خارجية، وانما هو مدخل لتغيير وتعديل وربما نقض بعض هذه الاتفاقات، خصوصا ان الطرف الاسرائيلي نادرا ما يحترم الاتفاقات.
ومرة اخرى اعتقد ان هذا المبدأ يرتكز الى قواعد راسخة في الشريعة الإسلامية، وله من النصوص القرآنية المحكمة ما يخرجه عن دائرة الاجتهاد الى دائرة القطعيات.
إذا أضفنا هذين الموقفين للوثيقة، أستطيع ان اقول بكل ثقة ان مضمون الوثيقة هذا ينسجم مع ما كان يدعو اليه الشيخ عبد الله نمر درويش مؤسس الحركة الاسلامية منذ عشرين عاما، وليس بعيدا عنه الشهيد احمد ياسين رحمه الله تعالى.
جاء في مقدمة الوثيقة: "بهذه الوثيقة تتعمق تجربتُنا، وتشترك أفهامُنا، وتتأسّس نظرتُنا، وتتحرك مسيرتنا على أرضيات ومنطلقات وأعمدة متينة وثوابت راسخة، تحفظ الصورة العامة، وتُبرز معالمَ الطريق، وتعزِّز أصولَ الوحدة الوطنية، والفهمَ المشترك للقضية، وترسم مبادئ العمل وحدود المرونة".
سأجتهد فيما سيأتي ان أسلط الضوء على أهم محاورها وأبرز دلالاتها، كما لم ادخر نقدا موضوعيا من وجهة نظري.
1. على مستوى التعريف العضوي للحركة:
وجدت في الوثيقة الجديدة تعريفا جامعا مانعا لحركة حماس، أنها "حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها".
هذا التعريف يضع حماس في قلب الجماعة الوطنية الفلسطينية ولا يفقدها لونها وجوهرها الإسلامي، بخلاف التعريفات الفضفاضة والمبعثرة في "ميثاق 1988"، فهي هناك: "حركة مقاومة إسلامية" وهي "حركة فلسطينية متميزة" وهي "حركة عالمية" وهي "جناح من اجنحة حركة الاخوان المسلمين" وهي "حركة من المسلمين" وهي "حركة جهاد".
2. على مستوى التعريف الأيديولوجي:
لم تكتف حركة حماس بإعلان انتسابها الى الإسلام ومنهجه في الإطار العام الإجمالي، بل حددت بشكل واضح أي إسلام تتخذه منهجا. إذ تكمن أهمية هذا الوضوح في التعريف الأيديولوجي، على خلفية المشهد الإسلامي المعاصر الذي تنتسب فيه حركات وجماعات متعددة الى الاسلام، أقل ما يقال في حق بعضها أنها "مارقة من الإسلام".
جاء في وثيقة الحركة: "تفهم حركة حماس الإسلام بشموله جوانب الحياة كافة، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وروحه الوسطية المعتدلة؛ وتؤمن أنه دين السلام والتسامح، في ظله يعيش أتباع الشرائع والأديان في أمن وأمان؛ كما تؤمن أنَّ فلسطين كانت وستبقى نموذجاً للتعايش والتسامح والإبداع الحضاري".
وأردفت الوثيقة بقولها: "تؤمن حماس بأنَّ رسالة الإسلام جاءت بقيم الحق والعدل والحرية والكرامة، وتحريم الظلم بأشكاله كافة، وتجريم الظالم مهما كان دينه أو عرقه أو جنسه أو جنسيته؛ وأنَّ الإسلام ضدّ جميع أشكال التطرّف والتعصب الديني والعرقي والطائفي، وهو الدّينُ الذي يربّي أتباعه على ردّ العدوان والانتصار للمظلومين، ويحثّهم على البذل والعطاء والتضحية دفاعاً عن كرامتهم وأرضهم وشعوبهم ومقدساتهم".
3. على المستوى الوطني الفلسطيني:
حضرت فلسطين الوطن في وثيقة المبادئ بصيغ متكاملة متجانسة، فهي ليست فقط "وقفية إسلامية" بل هي: "فلسطين أرض الشعب الفلسطيني العربي"، وهي "فلسطين أرض عربية إسلامية"، وهي "فلسطين الشراكة الحقيقية بين الفلسطينيين بكل انتماءاتهم"، وهي "فلسطين أرضٌ أعلى الإسلام مكانتها" وهي " فلسطين المقاومة" وهي "الأرض المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين، وهي قبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم -ومعراجه إلى السماء، ومهد المسيح -عليه السلام.
ولا يخفى علينا دلالات هذه التعاريف وترسيخها لحقنا الديني بشقيه الاسلامي والمسيحي، القومي العربي والانساني والتاريخي في فلسطين. وقد جاء الحديث عن القدس أيضا بهذه الروح:" القدس عاصمة فلسطين، ولها مكانتها الدينية والتاريخية والحضارية، عربياً وإسلامياً وإنسانياً؛ وجميع مقدساتها الإسلامية والمسيحية، هي حقٌّ ثابت للشعب الفلسطيني والامة العربية والإسلامية. ".
4. على مستوى الشعب الفلسطيني
حضر الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وانتماءاته منذ النكبة والى الآن: "الشعب الفلسطيني شعبٌ واحد، بكل أبنائه في الداخل والخارج، وبكل مكوّناته الدينية والثقافية والسياسية". كما تحددت لغة الخطاب في ادارة العلاقة مع الاخر الفلسطيني على قواعد راسخة وواضحة: " تؤمن حماس وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلّعات الشعب الفلسطيني. "
لفت انتباهي ايضا الموقف المتقدم بالنسبة للمرأة ودورها، فمن دور الام المربية لجيل المقاومة، الى موقف متقدم يقول: "إن دور المرأة الفلسطينية أساس في بناء الحاضر والمستقبل، كما كان دائماً في صناعة التاريخ الفلسطيني، وهو دور محوري في مشروع المقاومة والتحرير وبناء النظام السياسي". ومع هذا الموقف أتساءل لماذا قصرت الوثيقة على تعريف الفلسطيني واعتبرت من ولد لأب فلسطيني هو فلسطيني، ما المانع ان تورث الام الفلسطينية فلسطينيتها لأبنائها، ألم تحمل سيدتنا فاطمة الزهراء جينات ابيها صلى الله عليه وسلم الى آل بيته من بعده!؟
5. على مستوى النظام السياسي الفلسطيني:
بدل الحديث عن " دولة الاسلام " غير واضحة المعالم في الميثاق، تحدثت الوثيقة عن دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة على التراب الفلسطيني، نظامها ديمقراطي، قائم على التعددية والانتخابات الحرة النزيهة، والشراكة الوطنية والقبول بالآخر وتغليب الحوار وغير ذلك من معالم المجتمع المدني الديمقراطي. يضاف لهذا الموقف اعتراف واضح بإطار منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني للشعب الفلسطيني، يستوجب الحفاظ عليه وتعزيزه باستكمال بنائه وتطويره على أسس ديمقراطية وبشراكة شاملة لكل قوى الشعب الفلسطيني.
6. على مستوى فهم الحركة الصهيونية وتمييزها عن الديانة اليهودية
وصفت الوثيقة الجديدة المشروع الصهيوني انه مشروع عنصري عدواني إحلالي توسعي، واعتبرته النموذج الاخطر للاحتلال الاستيطاني، وعدته خطرا على الامن والسلم الدوليين وعلى المجتمع الانساني.
كما ميزت الوثيقة بين الصهيونية واليهودية، واعتبرت ان العداء للسامية والاضطهاد لليهود، لم ترتبط في تاريخ العرب والمسلمين. ومع ذلك تحدد حماس في وثيقتها موقفا واضحا رافضا لاضطهاد اي إنسان او الانتقاص من حقوقه على أساس قومي او ديني او طائفي. وهذه رسالة واضحة للشعب اليهودي. وبالتالي فهي تؤكد ان صراعها ليس مع اليهود بسبب ديانتهم بل مع "الصهاينة المحتلين المعتدين".
واخيرا ان استعداد حماس للقبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67 -كصيغة توافقية وطنية مشتركة- لا يعني التنازل عن الحقوق التاريخية والقومية والدينية في فلسطين، وليس مطلوبا من اي حركة - حماس كانت او فتح - ان تتنازل عن مبادئها، وانما المطلوب ان يدرك الجميع ان ادارة الصراع بكل تعقيداته الميدانية والعالمية يتطلب فهم المنظومة الدولية وطرق التعامل معها وخطابها بلغة تفهمها ، اذ لا يعقل ان تبقى اعدل قضية على وجه الارض تعاني ازمة الدفاع عنها وحمل رايتها .