الثلاثاء 19 سبتمبر 2017 08:33 م بتوقيت القدس
مما لا خلاف فيه أن حب الوطن هو جزء مركوز في الفطرة البشرية، وأمر غريزي وطبيعة طَبَعَ الله النفوس عليها، فلا يُتَصَوَّرُ ان يعيش الانسان من غير وطن نشأ فيه وارتبط به حتى أصبح مصيره جزءا من مصيره، وحياتُه مرتبطةً ببقائه، وكرامتُه مشتقةً من كرامته، والدفاعُ عنه جزءًا من الدفاع عن وجوده. لذلك لا نستغرب حين نرى القرآن الكريم يقرن حب الوطن بحب الروح والنفس فَهُمَا في ميزانه سواء. قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ).
هذه الحقيقة ضرورية لتحقيق الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان والتي هي عمارة الأرض بناءً على خطة مرسومة بعث الله بها الأنبياء على مر الزمان حتى انتهوا إلى سيد المرسلين وإمام النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ... من أجل ذلك زَوَّدَ الله الإنسان بكل الأدوات النفسية والمادية والعقلية والروحية تسهيلا لأداء هذه المهمة على الوجه الذي يحقق المصلحةَ العليا من الخَلْقِ والغايةَ الكبرى من الوجود.
نلحظ صفة ( حب الوطن )، (والعيش المشترك – المجتمعي أو الاجتماعي)، متأصلان في أغلب الكائنات التي خلقها الله في هذا الكون أو في كلها، فمن الظلم أن ينفرد الإنسان بصفة (الكائن الاجتماعي بطبعه) دون الكائنات من حوله ... إلا أننا حينما ننظر في عمق المشهد نجد أن هنالك فارقا جوهريا بين طبيعة (حب الوطن والحياة المجتمعية) لمعظم الكائنات وبين الإنسان، فالإنسان يحب وطنه ويعيش حالته المجتمعية من خلال وعي كامل وإرادة حرة وقرار مستقل، بينما تعيش باقي الكائنات حالتها تلك بدافع من جِبِلَّتِها وبتوجيه من غريزتها التي غرسها الله فيها حفاظا على نوعها وبقائها.
يحتل الوطن لهذا السبب في منطق الإنسان مكانة رفيعة، خصوصا حينما تغذيها رؤية دينية تجعل من الوطن قاعدة النهوض نحو تحقيق السر من الوجود. ليس غريبا والأمر على هذا النحو أن يحبّ الإنسان موطنه الذي عاش فيه وشب في أكنافه وعلى ثراه، فلا يكاد يفارقه حتى يحن إلى العودة إليه وإن كان موضعه مجدبًا، ولا يكاد يشعر بالتعب بعيدا عنه حتى يسارع بالعودة طلبا للراحة وهدوء النفس وراحة البال وإن كان غيره أكثر نفعًا ... ولا يهاجمه عدو إلا وينهض للدفاع عنه بالغالي والرخيص، ولا ينتهك إلا ويهب غاضبا للذود عنه بالروح والفؤاد وإن كان عهده به بعيدًا.
ليس هنالك في تاريخ البشرية أدل على ما ذكرنا أفضل من سيرة سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أخرج الترمذي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لمكة:( ما أطيبكِ من بلد، وما أحبكِ إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيركِ ). لقد وضعت هذه الكلمة القاعدة الخالدة للتعامل مع الوطن ، أسست لما بعدها في قوله صلى لله عليه وسلم: ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ) ... لقد كانت هجرته عليه السلام بأمر من الله ولغاية جليلة هي إقامة دولة الإسلام الأولى في تاريخ البشرية، بل كانت هجرته توسيعا لمعنى الوطن ولمفهوم الوطنية حتى شملت كل بلاد المسلمين مما تترتب عليه استحقاقات شرعية تجعل من أمر المسلمين ومن يعيش معهم من غيرهم، واحدا، ويجعل من الدفاع عن كل شبر من هذا الوطن الكبير إذا ما اعْتُدِيَ عليه ، فريضة شرعية لا تسقط إلا أن يقوم لها من الأمة من يعملون لإزالة العدوان وتحرير الأرض والإنسان ... نعم كانت هجرة، لكنها لم تُنْسِ أبدا حقَّ الوطن الأم على أهله، فما هي إلا سنوات حتى هبت جيوش الإسلام لتدك عروش الظلم، وتعيد الوطن المغتصب إلى رحاب الدولة الراشدة.
ما من شك في أن للوطن والوطنية وهما كما نرى مشتقان من بعضهما، فهذا خُلِقَ من ذاك، وذلك خُلِقَ من هذا، ما يرتكزان عليه من المنظور الشرعي، كما ولهما ما يسندهما من الأدلة المعصومة من الكتاب والسنة المشرفة... أما حب الوطن فليس لذاته فقط ، وإنما لغيره أيضا ... وعليه فليست الوطنية مطلوبة لذاتها فقط ، وإنما لغيرها أساسا .
الكل في منطقنا الإسلامي عائد إلى الأصل الأصيل وهو الله وما رسم من خططٍ لإدارة الكون وعمارة الدنيا. صِدْقُ الانتماء إلى الدين هو المدخل الصحيح والحقيقي لصدق الانتماء للوطن والولاء للوطنية.. قد يعيد الفيتنامي وطنه وقد يهزم أعداءه مهما قدم في سبيل ذلك من التضحيات، دون أن يكون بحاجة إلى دين رباني، فقد استبدله بإيمان من نوع آخر لا علاقة له بالسماء كان الملهم له في كفاحه ضد المحتل، إلا أن المسلم لا يتحقق له ذلك، حسب القراءة الحيادية والموضوعية للمشهد التاريخي والمعاصر، إلا من خلال صدق الولاء والانتماء إلى الدين، وقد وصل عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون إلى هذه النتيجة قبل ألف عام ، حينما حسم قراره في شأن قدرة الأمة على الانبعاث من جديد من عدمها ، فأشار إلى أن العنصر العربي (قاس ومتمرد بطبعه، فهو لا يستقيم إلا بدين وسلطان).
لا أنكر أن كثيرا من المفاهيم قد تشوهت كثيرا منذ بداية الغزو النابليوني وما تلاه من غزو استعماري غربي، نجح إلى حد كبير في تشويه الصورة الحقيقة لمفاهيم الإسلام وعلى رأسها مفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة، فأحدث حالة من الإرباك تحولت معها مؤامرة (سايكس بيكو) التي مزقت الأمة فتحولت الدولة الواحدة والوطن الواحد إلى اثنين وعشرين وطنا (دولة عربية)، من ورائها اكثر من ثلاثين وطنا (دولة إسلامية)، ومعها حكومات بنفس العدد، حتى أصبح الحديث عن وحدة الوطن والنظام السياسي الواحد في وطننا العربي والإسلامي من الخيانة العظمى للدول القُطْرِيَّة، ومن التفريط الكبير بالتراب الوطني والسيادة الوطنية! ..الخ ...
في ظل الحرب التي تعلنها انظمة الدكتاتورية والاستبداد العربية حاليا على شعوبها التواقة الى الحرية والديموقراطية والوحدة عموما، وعلى القوى الحية فيها وخصوصا الإسلامية الوسطية كالإخوان المسلمين (لتمييزها عن القاعدة وداعش وغيرها) خصوصا، تحاول تبريرا لحربها الضروس هذه ان ترفع لافتات هي أقرب الى السراب الخادع منها الى الحقيقة. منها، أولا، اتهام الإسلاميين ان اولويتهم ليست بالضرورة الوطن ويعنون به طبعا (الدولة القُطرية)، وإنما الوطن الكبير الذي يشمل كل البلاد والشعوب العربية والمسلمة. ثانيا، ان ولاءهم الأول هو للدين وليس الوطن. ثالثا، أن المواطنة في المنظور الإسلامي مفهوم ديني وليس مدني.
تفنيد هذه الشبهات/الاتهامات عملية يسيرة جدا على المستويين النظري والتطبيقي. يكفي لدحض هذه الافتراءات هذا الكم من التضحيات التي يقدمها الإسلاميون في كل بلد دفاعا عن اوطانهم في مواجهة استبداد الداخل وعدوان الخارج، ومن الواضح ان ذلك ما كان ليتحقق لولا حب هؤلاء لأوطانهم التي وُلدوا فيها وعاشوا على ثراها وشربوا من مائها وتنفسوا من هوائها.
مع ذلك لا بد من الإشارة هنا أن هذه الشبهات لم تنشأ نتيجة أوضاع عاشتها الامة عبر تاريخها الطويل - تماما كمسألة الفصل بين الدين والدولة - وإنما جاءت بتأثير من الغزو الفكري الغربي الذي فَرَّخَ كتائب من الحداثيين العرب والمسلمين المنقطعين تماما عن أصولهم، من الذي حملوا بضاعة الغرب دون النظر لا إلى أسبابها ولا إلى مآلاتها، فنقلوا بذلك تجربة غريبة تحمل سموما ضمنت للغرب الاستعماري قديما وحديثا ان يحقق اغراضه في تفتيت الامة وتمزيقها لضمان مصالحة من جهة، ولضمان بقاء المارد الذي نَغَّصَ عليهم حياتهم على مدة 14 قرنا، مَخَدّرًا غير قادر على استعادة قوته او التقاط أنفاسه من جهة أخرى!
أوضاع الامة العربية والإسلامية اليوم، وما تمر به من تحديات وازمات، اكبر دليل وأصدق شاهد على ما ذهبت اليه. تغييب الإسلام كمنهاج حياة شامل وكامل عن فضاء الامة، والذي يعني تغييب الوحدة في اعمق معانيها أولا، وتسليمها لأنظمة مستبدة قمعية تدافع عن مؤامرة (سايكس بيكو) وعلى الحدود المصطنعة التي خلقتها، كما لو كانت من مقدسات الامة ثانيا، جَرَّتْ كلها إلى مسلسل من الانحطاط المتدحرج الذي يكاد يُخرج الامة من التاريخ، ويحولها إلى مجموعة اقرب إلى ما كانت عليه قبل ان تشرق في سمائهم شمس الإسلام، وقبل ان يُبعث فيهم اكرم نبي ارسل، وينزل فيهم أعظم كتاب أنزل! اعني الجاهلية الأولى بكل ما اتصفت به من تمزق وشتات وضعف وانحطاط وفقر ومرض وفوضى وارتهان خارجي وصراع ونزاع لا ينتهي، أضافة إلى غيابها عن منصات التأثير الحضاري والسياسي.
خلاصة الموضوع أنّ الحركات الإسلامية الوسطية تؤكد على أهمية استقلال الدول العربية ووحدتها الجغرافية وسيادتها الوطنية، لكنها في ذات الوقت تؤكد على:
أولا، ضرورة تطوير نظام سياسي تعددي يضمن اقصى درجة من الحرية بكل أشكالها وعلى رأسها الحرية السياسية والتنظيمية، وحماية حقوق الانسان، وتداول السلطة السلمي بعيدا عن كل اشكال الدكتاتورية والاستبداد.
ثانيا، ضرورة تطوير علاقات مميزة بين الدول العربية والإسلامية ترقى إلى مستوى الوحدة التكاملية في سياساتها الخارجية والداخلية خدمةً لمصالح شعوبها العليا، وحمايةً لأمنها الوطني، ودفاعًا عن حياضها وشعوبها وعن المسلمين أينما كانوا وعن مقدساتها في مواجهة من يكيدون لها ويتآمرون ضدها ويعتدون عليها من كل مِلَّةٍ وَنِحْلَة (الاتحاد الأوروبي كنموذج).
ثالثا، السعي الحقيقي والحثيث لتحقيق الوحدة الاندماجية وقلب الطاولة مرة وللابد في وجه (سايكس - بيكو) وغيرها من المؤامرات، وإقامة (الولايات العربية المتحدة) على مستوى العالم العربي، تمهيدا لإقامة (الولايات الإسلامية المتحدة) ، أسوة بالولايات المتحدة الامريكية ( 450 مليون/ 51 دولة)، والصين ( 1.5 مليار) والهند ( 1.5 مليار )، والتي تحكم كلاًّ منها حكومةٌ واحدة ضمن منظومة تحفظ لكل ولاية ولكل مجوعة دينية او عرقية خصوصياتها وحقوقها، ويعيش الجميع تحت مظلتها متساوون في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة فقط والتي هي في المنظور الإسلامي مفهوم سياسي مدني.
هل هذا مستحيل؟ قد يقول البعض نعم، وقد يقول البعض لا ! الدارس بحيادية اكاديمية لواقع العرب قبل الإسلام وكيف اصبح وضعهم بعده رغم ما عاشوه من جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، سيصل حتما إلى ان الإسلام الذي صنع من هؤلاء امة ملأت سمع وبصر العالم، قادر على توحيدها وهي الامة المسلمة التي لن ترضى بمجملها عن إسلامها بديلا.
قد تسألون كيف؟ تخلص الامة من أنظمتها المستبدة والتي هي العقبة الكؤود في طريق نهضتها، هو أقصر الطرق لتحقيق هذا الغاية ليتحول الحلم الى حقيقة.
كيف مرة اخرى؟ هذه مسؤولية الشعوب إن هي قررت ان تعيش كريمة حرة!