الخميس 12 اكتوبر 2017 07:52 م بتوقيت القدس
في الماضي كنا نسمع عن (طُوَش) لا تتعدى ان تكون إشكالات بسيطة تنشب بين افراد من المجتمع غالبا ما تنتهي بفض الاشتباك فور وقوعه على يد الحاضرين الذين يتحركون سريعا لاحتواء الازمة وحلها، تنتهي في غالب الأحيان بإصابات بسيطة لا تستعدي تدخلا جراحيا من أي نوع، وبالتالي لا تستدعي تدخلا شرطيا ايضا.. هذا من جهة، اما من الجهة الأخرى، فقد كانت مجتمعاتنا العربية تهتز بشكل عميق عند سماع خبر عملية قتل على ندرة هذا النوع من العمليات، فيقوم الناس قومة رجل واحد مستنكرين ومنددين، وفي ذات الوقت مسارعين لاحتواء الموقف ومعالجته بما يضمن وأد الفتنة في مهدها.. لم يكن مجتمعنا ليسكت او يصبر على أية جريمة تقع.. كان مجتمعا صحيا في نفسه وفي تربيته وفي علاقاته الاجتماعية وفي تقديره لمرجعياته واحترامه لعاداته وتقاليده الاصيلة، بالرغم من بساطته وتواضع احواله الثقافية والاقتصادية. لقد كانت مجتمعاتُنا عموما مجتمعاتٍ تتمتع بدرجة عالية من التماسك والتضامن والتعاون المغموس بخلاصة رحيق الاحترام المتبادل والوحدة الشعورية البريئة والسليمة من كل زيف.
أما في السنوات الأخيرة فقد تغيرت الأحوال كثيرا، واستبدلَ قِطاعٌ غير قليل من مجتمعاتنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فانقلبت حياة الناس الى جحيم بفعل مجموعات من بني جلدتنا يتحدثون لغتنا وينتمون إلى أدياننا ويعيشون بيننا، قرروا التمرد على قيمنا الجميلة وعاداتنا الاصيلة وتقاليدنا المتينة، ورضوا ان يكونوا معاول هدم لمجتمعاتنا بدل ان يكونوا معاول تشييد وبناء! دوافعهم في ذلك لا تعدو ان تكون انحطاطا في النفوس، وتردٍّ في الأخلاق، واعوجاج في التربية، وانحراف في السلوك، وضعف في الايمان، واستسلام وضيع للشهوات والأهواء، وجريا مسعورا وراء السراب الخادع من الأوهام.
أما الغالبية الساحقة من أهلنا فقد هجروا - الا ما ندر – ما كان عليه الأجداد من سرعة التحرك وعمق الاهتمام والشعور بالمسؤولية الجماعية، فانكفأوا على انفسهم وانسحبوا الى داخل ذواتهم وأغلقوا عليهم ابوابهم، ظنا منهم ان النار إن استعرت لن تصل إليهم.. فشعر "الارهابيون" بالأمان، فانطلقوا يعيثون في الأرض فسادا دون رقيب او حسيب، وكأنما مجتمعاتنا ما خُلقت الا لهم وما قامت إلا لخدمتهم، حتى أصبح صوتُهم الأعلى وإن كانوا عددا هامشَ الهامش، ويدُهم العليا وإن كانوا الأذلين، والأكثرُ جرأة وإن كانوا الجبناء المخذولين. فأصبح الحالُ أنَّ قِلَّةً قليلة وذليلة نجحت للأسف في تحويل حياة الأغلبية الساحقة الى جحيم لا يطاق، فامتلأت شوارعنا عنفا ورصاصا، واكتسب ارضنا جثثا صباحا ومساء، وأنبتت "تُرْباتُنا" قبورا ليلا ونهارا.
لذلك يمر الزمان ثقيلا على النفس بسبب ما يسجله من أحداث العنف والجريمة التي حَطَّتْ على صدر مجتمعنا العربي بثقلها حتى ما عاد قادرا على التقاط أنفاسه، وأصبح الواحد منا ينظر إلى الآخر (نظر المغْشِيِّ عليه من الموت).
كثر العنف واستشرى في كل زاوية في مجتمعنا العربي ، حتى لكأن مفاهيم التراحم والتعايش والتسامح والمحبة، وإشاعة العفو، والسلام، والعدل، والإحسان، والحوار، والحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والصبر، والمداراة، والعيش المشترك، والصفح الجميل، والهجر الجميل، والتي هي أزهى ما في حياتنا من قيم وفضائل، وأجمل ما منحنا الله الخالق، ليست منا ولسنا منها، غريبة عنا كما نحن عنها، حينما استبدلناها بآلات الجاهلية الأولى، فأصبحت صناعة الموت التي أشعلت النار في كل مكان ودخلت كل بيت، وهددت أمن كل مَنْ وما يَدُبُّ على أرض، تماما كما كان حالنا قبل الإسلام، حِرْفَتَنَا التي لا نحسن غيرها، ومهنتنا التي ما برعنا إلا فيها.
كان من أخص خصائص الجاهلية الأولى التي عاشها العرب قبل أن يُبْعّثَ فيه سيد الخلق أجمعين عليه السلام بالنور من الله للعالمين، أيامٌ عرفت في التاريخ (بأيام العرب)... قد يظن غير الخبير بوقائع الزمان وبالذات زمان العرب، أن تلك الأيام كانت ألأعظم إنجازا، ولكن الحقيقة المؤلمة إن تلك الأيام كانت الأشد حلكة وظلاما، لأنها كانت شاهدة على مدى الانحطاط الذي عاشه مجتمع العرب، حيث كان (العنف) لأتفه الأسباب المحرك لحروب طاحنة هَدَّتْ كيانهم وشتتت شملهم ومزقت وحدتهم وطحنت أجيالهم وأضعفت قوتهم، وجعلت وجودهم في مهب الريح وعلى كفة عفريت.
جاء الإسلام فأبدلهم بذلك العنف وتلك القسوة أسمى ما في الوجود من معاني الحب والرحمة في غير ضعف، فكانوا كما قال فيهم ربنا سبحانه: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ، إنه عزيز حكيم ."، وكما قال أيضا: "محمد رسول الله والذين معه أعزاء على الكفار رحماء بينهم.
ما الذي أصاب مجتمعنا حتى بدأ يحث الخطى نحو الوراء؟!... نحو تلك الجاهلية المهلكة التي كانت كالسوس الذي ينخر في عظام امة العرب، حتى بتنا نعيش أوضاعا هي أسوأ مما كانوا عليه وأفظع عنفا وإجراما وانحلالا وانحطاطا... إذا كان التسامح هو الضابط لعلاقات المسلمين مع غيرهم من الأمم والشعوب، فكيف لا يكون صمام الأمان في العلاقة البينية في مجتمع المسلمين أنفسهم ؟!!.
يندهش الواحد منا مرة بعد مرة بسبب استفحال العنف وازدياده بشكل أصبح الحليم فيه حيران... في كل يوم وبعد كل نشاط جماهيري يعالج قضية العنف وأثرها المدمر على المجتمع، يُمَنِّي الواحد منا نفسه بالأمل في أن يكون هذا النشاط أو ذاك بداية العد التنازلي لهذا المرض العضال الذي يوشك أن يفتك بالجميع، وأن يحرق الأخضر واليابس، وأن يحيل كل قطعة خضراء جميلة في حياتنا إلى صحراء قاحلة وقطعة جرداء لا حياة فيها.
لكن الواقع يأتي ليصدمنا بمعطياته المذهلة وإحصاءاته الصاعقة... لا يكاد يمر أسبوع إلا وتمتلئ الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية بأحداث العنف، والتي وصلت حد القتل والاغتيال للأبرياء في وضح النهار، ولأسباب أقل ما يمكن أن يُقال فيها أنها أتفه من تافهة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تكون سببا في إراقة الدماء الزكية وإزهاق الأرواح البريئة، مع ما يترتب عليها من ارتباك خطير للبنى الاجتماعية التي تعاني ابتداء من شبه انهيار في كثير من المجالات.
قد تقوى جماهيرنا على النهوض في وجه العنصرية حتى لو ملكت كل أسباب القوة الهمجية، إن هي حافظت على متانتها وصلابتها الذاتية، لكنها أبدا لن تصمد إن هي أكلتها الصراعات الداخلية، وفتكت بخلاياها الحية سموم زعاف تنتجها مصانع الانتحار الذاتي وبأيدي أبنائنا وفلذات أكبادنا.
المتتبع لردود الفعل لدى الأغلبية الصامتة في مجتمعنا حيال العنف وأخباره وبالذات عمليات القتل التي تجاوزت كل حد، سيلمس مدى الاستياء العارم والغضب الجارف الذي يجتاح هذه الغالبية المسالمة، ولكن هذا المشاعر ترفض أن تتجاوز النفوس إلى الميدان، أو أن تتحول من موجات عاطفية طاهرة إلى خطط ميدانية وبرامج عمل تشكل إعلانا رسميا لحرب حقيقة على إرهاب العنف والجريمة التي تكاد تصل إلى كل بيت.
هذا هو التحدي الكبير... لن تنفعنا منذ الآن كل بيانات التنديد والاستنكار، ولا المؤتمرات الأكاديمية لبحث الظاهرة وتحليلها، على أهمية كل ذلك وضرورته .... نعتقد أننا تجاوزنا بسنين مرحلة التشخيص، ومن العدل مع أنفسنا ومع مجتمعنا ألا نبقى رهائن هذه المرحلة على أهميتها، وأن ننتقل وبالسرعة الممكنة إلى مرحلة التنفيذ لأنها الوحيدة الكفيلة – بإذن الله – بوقف التدهور الرهيب الذي تشهده مجتمعاتنا كهدف أول، ثم تجفيف هذا المستنقع بكل ما أوتينا من قوة كغاية كبرى، القوة بكل أشكالها ومعانيها ، فإنه – كما هو معروف – لا يفل الحديد إلا الحديد ، وعلى الباغي تدور الدوائر.
يجب أن نعترف أننا اليوم نعيش جاهلية ولكن بلا أصنام حجرية، لكنها جاهلية تحمل سمات الجاهلية الأولى وأعراضها: عنف وصراع ونزاع وسلبية وتخلف وخفة عقل وغياب عن منظومة الأمم الفاعلة والمؤثرة. ليس أمامنا – والوضع على هذا النحو - من بديل عن أخذ زمام المبادرة، فلن يبعث الله فينا نبيا جديدا يخلصنا من أرجاس جاهليتنا المعاصرة، وقد عَلِمْنَا عقيدةً أن الرسول الأكرم كان آخر الأنبياء والرسل.
وعليه فلا بد أن يقوم كل الخيرين في مجتمعنا بما عليهم دون إبطاء، وأن يتوحد كل المخلصين من وراء مشروع إنقاذ يضع حدا لهذا التدهور الخطير الذي بدأ يهدد بحرق الأخضر واليابس، ابتداء أولا، من استعادة الشارع وتحريره من سيطرة الفاسدين والعابثين ونقله الى يد المؤتمنين على المصلحة العامة. فقد تعلمنا من نظرية (الشبابيك المكسرة) في علم الاجرام أنه لابد من إصلاح كل شيء تم العبث في الشارع وتهيئته ليكون مكانا لا يوحي بالفوضى والعبث. وثانيا، الاهتمام بالعائلة على اعتبارها الحاضنة الأولى كل خير او شر في المجتمع من خلال مساعدتها وتوجيهها وتقديم النصح لها. وثالثا، الحرص على التحرك المجتمعي لاحتواء اية إشكالية مهما كان نوعها صغيرها وكبيرها من خلال لجان الصلح الفعالة التي تحرص على الوقاية اكثر من حرصها على العلاج .. وللحيث بقية ..