السبت 25 نوفمبر 2017 11:17 م بتوقيت القدس
كم يعيش بيننا هذا الموت ونحن لا نراه، كم يتجول بيننا ونحن لا نشعر به، كم يتفرس في وجوهنا صبح مساء فينتقي منا من يشاء، ويتركنا حزانى مفجوعين من هول الصدمة وكبر المصيبة التي أوقعها علينا، ولكنه يذهب، يذهب ويتركنا نلوي على الألم، لا نملك معه سوى الرضا بقضاء الله وقدره والإذعان إليه.
أخي “أبو عمر” عبد الحكيم مفيد، كنت تملأ الأرض حيوية ونشاطا، وتذرع الأرض جنوبا وشمالا، تحمل على كاهليك حب شعبك ووطنك، تعمل بالضوضاء التي تعشقها وبالضغط الذي تحب أن تعمل في ظله، كان يطيب لك ان تنجز مهامك في اللحظات الأخيرة، ولكنك كنت دائما تنجزها على الوجه الأفضل، كنت متمسكا برأيك دائما حتى وإن خالفت فيه الجميع، كانت لك قناعاتك الخاصة ورأيك المستقل حتى وإن كنت وحيدا فيه.
يتفق الناس ويختلفون ويتناقشون ويحتد النقاش بينهم وربما يصل الى مرحلة متقدمة من النقاش بحيث يضع حدودا وسدودا بين المتناقشين ويترك عداوات، لكنك وأنت الذي كنت تتقن الحدة في النقاش وتتقن أن تكون لاذعا وربما ساخرا وربما قاسيا، لكنك كنت أفضل من يتقن أن تبقى صاحبا مقربا لمن احتد النقاش بينك وبينه، كنت تقول دائما “إحنا بنعرف نختلف ونظل أصحاب هذا شيء وهذا شيء” وحقيقة كنت أنت أفضل من يتقن ذلك، بل كنت أنت الذي تتقن ذلك.
أخي أبو عمر حرصك على العلاقات الاجتماعية، وعلى التواصل مع الناس – وليس شبكات التواصل التي كنت تعتبرها تؤصل لثقافة السطحية والقطيعة – حرصك هذا كان بالنسبة لك رأسمال لا يمكن أن تتخلى عنه فكنت من أفضل من يقوم به، فلا يفوتك بيت عزاء ولا فرح ولا زيارة مريض إلا وكنت من أوائل من يكون هناك، ولو كان ذلك على حساب مهمات وظيفية أخرى، لذلك كنت وإياك نختلف وأنا –رئيس التحرير- أريد أن تسلم المواد التي كلفت بها باكرا حتى أتمكن من تنظيم الصحيفة وإعدادها وإغلاق ملحقها الذي كنتَ أنت مكلفا بتحريره وأنت تقول “توكل على الله خلي لي كذا وكذا صفحة” وتأتي الصفحات وأكثر منها في يوم إغلاق الملحق بعد ان تكون قد استفززت كل مفاصلي، ولكنك تدخل بابتسامتك المعهودة وتمتص كل الغضب الذي كان.
رغم أن غالبية الكتاب إن لم يكن كلهم يكتبون مقالات قصيرة صغيرة الحجم قليلة الكلمات مؤخرا ورغم أن طلب رؤساء التحرير يتكرر بالاختصار وعدم الإطناب لأن الجمهور لا يقرأ المقالات المطولة، لكنك كنت تصر على ما أنت عليه، تصر أن تكتب المقالات المطولة لأنك كنت ترفض دائما السطحية في كل شيء، تأبى إلا أن تغوص في الأعماق وتستخرج اللآلئ من قعر البحار ولكي تفعل ذلك كان لا بد أن تكتب المقالات الطويلة – رغم ما لها وما عليها – لكنك كنت مقتنعا بما تفعل ولذلك يوم هجرت صفحتك على موقع التواصل الاجتماعي بررت ذلك بامتعاضك من الثقافة السطحية التي تصنعها صفحات التواصل الاجتماعي تلك التي تقتصر على السطر والسطرين حيث لا يمكن فيها أن يعبر المرء عن نفسه.
أخي “أبو عمر” لست بصدد فتح دفتر الذكريات وهي كثيرة تمتد على خمس وعشرين عاما هي نصف أعمارنا، بدأناها سوية في صوت الحق والحرية يوم انضممت الى طاقمها وانتهت يوم تلقيت مساء الأحد المكالمات التي تستفسر عنك، فكانت المكالمة الأولى من مدينة الطيبة من اخ فاضل محب يسأل عنك ويقول أن قدميه لم تعد تحملانه فطمأنته أنك بخير وأن الذي توفي هو عمك قبل عدة أيام، لكنها لحظات بعد أن أتممت تلك المكالمة وإذا بالهاتف يرن مرة أخرى من أخي الدكتور منصور عباس يستفسر عنك فنفيت الخبر أيضا ولكني ساعتها شككت في الأمر فاتصلت بالأخ طه من مصمص لأسمع تأكيدا لما خشيت أن يكون قد أصبح واقعا.
أخي “أبو عمر” غادرتنا وأنت في قمة عطائك، غادرتنا وقد كنت في طريقك إلى عكا حيث أحببت ان تكون في السنوات الأخيرة لتتم أو لتبدأ مشروع إعمار جديد في بيوتها وفي أحيائها كلفتك به لجنة المتابعة العليا، قُبضت وانت على طاعة، فالله نسأل أن تُبعث على طاعة لله كما قُبضت عليها.
أخي “أبو عمر” أصدقك القول أني أمسكت قلمي أكثر من مرة لأرثيك لكنني في كل مرة كنت أضعه دون أن أنجح لأن الحديث عنك بضمير الغائب صعب، وأصدقك القول رغم إيماني المطلق بأن الموت هذا الذي يحيا بيننا في كل لحظة هو حق ومن شأنه أن يداهم أيا منا في أية لحظة، ورغم إيماني المطلق بأنك لم تعد بيننا جسدا لكنني إلى الآن لا أستطيع أن أتخيل كثيرا من الأشياء والأماكن واللجان بدونك.
فإلى رحمة الله أودعناك أبا عمر ونسأله جل شأنه أن يجمعنا بك على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، واللهَ نسأل أن يحشرك في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.