أقل من ثلاثة أسابيع تفصل بيننا وبين يوم ٣٠\١٠ اليوم الذي ستجري فيه الإنتخابات لاختيار أعضاء ورؤساء المجالس المحلية والبلدية في الداخل الفلسطيني، والتي يبلغ تعدادها قريبا من ٦٥ سلطة محليّة وبلدية. قدرنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني الذي بقينا في الوطن يوم أن حلّت نكبة شعبنا على يد العصابات الصهيونية عام ١٩٤٨، وقد هُجّر يومها قريبا من ٩٠٠ ألف وبقي في الجزء من الوطن الذي أقيمت عليه إسرائيل قريبا من ١٥٠ ألف، ليصبح تعدادنا اليوم، والحمد لله قريبا من ١.٦ مليون، ما نسبته ٢٠٪ من مجموع السكان، متجذرين هنا في الجليل وفي المثلث وفي النقب، وفي الساحل الفلسطيني حيث المدن التاريخية الغالية، عكا، حيفا، يافا، اللد والرملة.
صحيح أن عددنا يساوي بل يزيد كثيرًا عن عدد سكان دول خليجية وأجنبية، لكنها دول لها رؤساء، أو ملوك أو أمراء، ولها عواصم وعلم وجيشٌ وسفارات. بينما نحن نعيش كأقليّة في وطننا وأرضنا. ويراد لهويتنا أن تُمسخ في ظل مشاريع التهويد، والأسرلة التي تمارسها ضدنا حكومة الدولة التي نعيش فيها.
إن وجود انتخابات للسلطات المحلية، هي شكل من أشكال الديمقراطيات التي تمارس في الدول المتحضرة، لكن لماذا تتحول الإنتخابات المحلية لحالة غير عادية عندنا؟ ولماذا تعتبر أشهر سنة الإنتخابات أشهر استثنائية؟ بل ولماذا ينعكس سلوكنا في هذه السنة على واقعنا خلال السنوات التي تليها؟ ولماذا يخرج جنّ العائلية من القمقم، ولماذا يقفز عفريت الحزبيّة من قاع البئر؟ ولماذا تعيش قرانا حالة استقطاب واحتقان؟ لأجل ذلك، إنها جملة ملاحظات ونصائح، أتقدم بها لأهلنا وأبناء شعبنا علّها تساهم في تجاوز هذه المرحلة بسلام، بل ولعلها ترفع منسوب الوعي، وتوقف كل إنسانٍ منا على مسؤولياته؟
يبدو أن حمى التنافس في انتخابات السلطة المحلية قد بلغت مدى كبيرا، لكون آفاق المناصب العليا محدودة، وأن أقصى ما يمكن أن يصل إليه صاحب طموحاتٍ شخصية، حتى وإن كان بصدق ونيّة خدمة بلده، فإنه لن يتجاوز غير أن يكون عضو كنيست. وإن هذا الموقع لن يشغله إلا قريبًا من ١٥ صاحب طموح (مع التأكيد على موقفي الشخصي الرافض من المشاركة في انتخابات كنيست إسرائيل). عندها سيكون منصب رئيس بلدية، أو سلطة محلية هو الخيار الثاني والبديل، ولذلك نجد كثرة المتنافسين في كل قرية ومدينة للفوز بهذا المنصب، مع قناعتي واعتزازي أن في أبناء شعبنا من يصلح لقيادة دول، وإدارة وزارات وسفارات وغيرها، ولأنهم يرفضون أن يكونوا جزءًا من المنظومة السياسية الإسرائيلية، ولأنها هي بالأصل ترفضهم في ظل سياساتها العنصرية، فإنهم يتوجهون للإبداع العلمي والإقتصادي، ولا يستهويهم بريق ولمعان منصب رئيس بلدية، أو مجلس محلي، مع التأكيد أنّ كثيرًا ممن يتقدمون لهذا الموقع، يحملهم الحب والحرص على خدمة أهلهم وشعبهم، مع عدم نفي وجود من يسعون للوصول إلى ذلك الموقع، لأهداف ومصالح شخصية، وتحقيق عبادة الأنا، ومن يسعون لنيل مجدٍ حزبي أو عائلي .
إن المسؤولية تكليف وليست تشريف، وإن الله سبحانه وتعالى سيسأل كل مسؤول أيًا كانت حدود مسؤوليته، وصلاحياته عن هذه المسؤولية (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته)، وإن العقلاء كانوا دائمًا يفرّون ويهربون من مواقع المسؤولية، خاصة الإمارة والقضاء، فأن يكون أحدنا رئيسًا لسلطة محليّة أو بلديّة، فهذا ليس وسامًا يتقلّده، ولا لقبا يحوزه، وإنما هي مسؤولية ثقيلة، وأمانة غالية سيسأله الله عنها إن هو فرّط فيها، أو ظلم أو لم يؤدها حقّها. وكيف لا يكون الحال كذلك، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشعر عظم هذه الأمانة قال:” لو أن بغلة عثرت في العراق، لخفت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟ ”.
مع كل نهاية فرزٍ انتخابي، وأيا كان عدد المتنافسين، فإن شخصا واحدا هو من ستلقى عليه المسؤولية، ويحمل الأمانة. بلغة الواقع سيكون هو الفائز بمنصب رئيس السلطة المحليّة. فعلى كل متنافس أن يهيئ نفسه لكل الاحتمالات، وأن يرضى بأي نتيجة. وإن هذا الفائز هو من أصبح رئيسًا لمن انتخبوه، ولمن لم ينتخبوه، وإن مثل هذا الشخص في هذا الموقع، يحتاج منا أن ندعو له بالتوفيق وسداد الرأي، والبطانة الصالحة، لا أن يعتبره الذين انتخبوه بقرة حلوبًا، ويعتبر موقعه بابًا لتحقيق مصالح ومنافع خاصة بهم.
لا يليق بنا ونحن نمارس لعبة الديمقراطية، ونحن نحتكم إلى الصندوق، ونفتخر بل وننظر للديمقراطيات في العالم، ونشتم الدكتاتوريات والطواغيت، وننادي بالحريات والحق بالتعبير عن الرأي، لا يليق بنا أن يتحول أحدنا إلى طاغيةٍ صغير ودكتاتورٍ أصغر، لما أنه لا يقبل بحكم الصندوق، ولا يرضى بالفرز الديمقراطي، ويقيم الدنيا ولا يقعدها، ويمارس كل أنواع الأذى والشتم والسب، ولعله التخريب والإعتداء الجسدي لعدم فوز مرشحه، أو مرشح عائلته وحزبه.
وهنا لا بد من توجيه النصيحة ولفت الإنتباه إلى أهمية الخطاب واللغة التي يتحدث بها المرشح، أيّا كان أمام مناصريه، وأن لا يكون هناك فرق في الخطاب أمام الرأي العام، وبين الخطاب في المجالس الداخلية والغرف المغلقة. نعم إن خطاب الأخ المرشح هو الميزان في سلوك مؤيديه ومناصريه، وكما قيل ” الألسن مغارف القلوب“، فما يختلج في صدر الإنسان يخرج على لسانه وشفتيه. وما يتحدث، وما يمارسه جمهور أي مرشح، ومؤيديه، وما غرفته ألسنتهم من قلب وقاموس مرشحهم، وما يسمعونه منه. إنني على يقين أنه إذا بُثَّ خطاب العقلانية والتسامح والرضى الحقيقي بفرز الصندوق، فإن هذا سيظهر على سلوك المؤيدين أيّا كانوا، وإذا كانت لهجة المرشح هي لهجة الفرعنة والحدّة، وأن أي نتيجة لا تأتي لصالحه فلن يرضى بها، فإن هذا سيظهر على سلوك من حوله. فاحذر أخي المرشح من أن يسجل عليك أي كلمة أو موقف تظهرك في النهاية أنك لا تستحق هذا الموقع، ويكون من فضل الله على اهل بلدك أنهم قد اختاروا أحدًا غيرك.
إنني أذكر أبناء بلدي، وأبناء شعبي في كل قرية ومدينة، من عرعرة في أقصى النقب جنوبًا، حتى المزرعة في أقصى الجليل شمالًا، وحيث حديثي موجه لهم جميعًا، ولا أخص به مدينة أو قرية بعينها. أذكرهم بضرورة التأكيد على أبنائنا وشبابنا أن الإنتخابات هي ساحة منافسة، لا ساحة حرب ومعركة، ويجب أن نقلع عن تسميتها ” معركة إنتخابية“، لأن مصطلح معركة يشير إلى كل المعاني السلبية من الخصومة والعداوة، والمنتصر والمهزوم، والقوي والضعيف. نعم إنها ليست معركة بل منافسة واختبار. من يكون صاحب الحظ في خدمة بلده هذه المرة؟ بل ولعلنا نقول: من سيكون صاحب الابتلاء والحظ السيء في أن يكون في دائرة الاختبار الفعلي أمام الناس، وأمام رب الناس سبحانه؟
تذكر أيها الشاب المتحمس لفوز مرشحك، وقريبك وابن عائلتك، وأنت الذي ستنتشي وتفاخر بأن رئيس البلدية أو رئيس السلطة المحليّة، هو ابن عائلتك أو مرشح قائمتك، ولعلك ستقول ” الرئيس مِنّا ”، فتذكر هنا أن الرئيس هو مرؤوس، وهو موظف عند حاكم اللواء، وعند وزير الداخلية، وعند رئيس الحكومة. وأنه موظف صغير هناك، يمكن أن يحوله إلى فاشلٍ كبير عبر التضييق عليه في الميزانيات، أو عدم إقرار الموافقة على بعض مخططاته. ” فإيّاك إيّاك أن تطوش على شبر ماء”.
إن ما درج وما نسمعه، وما قد أصبح شائعًا إلا عند من رحم ربي باستخدام المال لشراء الأصوات، بل ولشراء الذمم والضمائر، إما بدفع المال النقدي مقابل الأصوات، وإما بتقديم خدمات خاصة قبل الانتخابات، أو بتقديم الوعود بتحقيق مصالح وتعيينات وتوظيفات بعد الفوز مقابل هذا التصويت. ليس أن هذا يتنافى مع احترام رأي الناخب فحسب، وإنما هي الرشوة بعينها، وإن من يستخدم المال بغض النظر عن مصدره، ويشتري به ذمم الناخبين، فإنه في عيني غير مؤتمنٍ على أموال الناس وميزانيات السلطة التي يديرها. فمن يسهل عليه سوء استغلال القليل، فإنه سيسهل عليه أن تمتد يده أو يسيء التصرف في الكثير.
إننا في زمن طفرة وسائل التواصل الإجتماعي، والتي باتت في متناول يد الجميع، وإننا نرى استغلالها في كل بابٍ وميدان، وقد أصبحت حاضرة بقوة في ميدان التنافس الإنتخابي. لا غضاضة ولا ضير باستخدامها للترويج لمرشحك، ولبيان تميّز ذلك المرشح وبرنامجه، ولكن أن تتحول إلى وسيلة شتم وأذى ونيلٍ من الآخرين، فلا وألف لا. أن تصبح هي وسيلة النيل من الأعراض، والتشكيك بالطهر الوطني، فإنها الجريمة التي لا تغتفر. ومن يرى القشة في عين الآخر، فلينظر إلى الخشبة التي في عينه. ثم إن علينا الحذر الشديد من المفترين والفاسدين، والذي لا دور لهم ولا وظيفة إلا باستخدام هذه الوسائل لدقّ الأسافين وإثارة الفتن، ونقل الإشاعات والأخبار الكاذبة التي لا تهدف إلّا لتأجيج النفوس. نعم إن من بين مناصري المرشحين كذلك من هم مسعّروا حرب. إنه الفتّان الذي يجب أن نستعيذ بالله منه، ولكن ليس قبل أن يبعد كل مرشح مثل هذا الشخص من حوله، لأنه مصدر الفتن والشرور، ولا يعفى من مسؤولية ونتائج شروره، وقذارة أسلوبه ولسانه.
ونحن نرى قرانا ومدننا تموج موجًا بمظاهر المنافسة الانتخابية، وحيث الحماسة تبلغ حد الجنون في بعض الحالات، فنرى انشغال الناس بالانتخابات يصل إلى حد نسيان وتغافل وتجاهل كل ما يجري حولنا من قضايا شعبنا وأمتنا. نعم إننا نشغل أنفسنا بهذه المعركة الانتخابية، ونتغافل عن المعارك التي يجب أن نواجهها كمكافحة المخدرات، ونسب الطلاق والتفكك الأسري، ونسيجنا الاجتماعي الممزق، وإلى درجة عدم المشاركة والاهتمام بقضايا مصيرية تواجه شعبنا وأمتنا. إننا لم نعد نهتم بقانون القومية واسقاطاته، ولا بالقدس ولا المسجد الأقصى والانتهاكات التي يتعرض لها كل يوم، ولا بعموم قضية شعبنا. ولا يقل لي أحدُ أن هذه حالة مرحلية ومؤقتة، وسنعود بل سيعود مرشحنا بعد الفوز لتصدر العمل الشعبي والوطني والجماهيري. فقد اختلت الموازين وأصبحنا لا نفرق بين الخطر والأخطر، وبين السيء والأسوأ. وأصبح الواحد منا لا ينظر إلى ما حوله إلا من نافذة شخصه.
أهلي وأبناء شعبي لنتعامل مع موسم الانتخابات بحجمه الطبيعي، لنتذكر أننا في النهاية من سيفوز، ومن لم يحالفه الحظ، من يكون في موقع المسؤولية ومن يكون في موقع المعارضة، أننا جميعا بكل أبنائنا وعائلاتنا وطوائفنا وقرانا ومدننا، أننا في سفينة واحدة، وحولنا الأمواج العاتية من سياسة إسرائيلية عدوانية تريد أن تغرقنا جميعا. نعم تذكروا أننا كلنا في عين ودائرة الاستهداف الإسرائيلية العنصرية ضدنا جميعا، وإنها لا تتردد باستخدام أي وسيلة من أجل أن تحدث ثقبًا في جدار سفينتنا لنغرق، وعنده فإنها لن تمد اليد لتنقذ بعض من يظنون أن لهم مكانة واعتبارًا عندها، وأننا سنغرق كلنا، نعم كلنا. فحافظوا على سفينة شعبنا ومجتمعنا، وليكن كل منا يفكر، بل ويحمل مسؤولية دفع السفينة لتتجاوز الأمواج العاتية، لا أن يحمل المسمار الذي به يخرق جسد السفينة.
وختاما ندعو الله سبحانه، أن يحفظ علينا أخوتنا وجيرتنا، وأن يوحد كلمتنا، وأن يدفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفق للخير والرشاد كل من ستلقى عليه مسؤولية قيادة قريته أو مدينته، وأن يرزقه البطانة الصالحة، اللهم آمين.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون