الاربعاء 20 فبراير 2019 17:13 م بتوقيت القدس
(1)
تعودنا عندما نودع عزيزا الى عالمه الجديد، عالم الآخرة، ان نقف على قبره مودعين: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا (........... ) لمحزونون، لكننا لا نقول الا ما يرضي الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون..
أمِنْ حق "القائمة المشتركة" علينا بعد ان فشلت الجهود في إحيائها من جديد لتكون الإطار الموحد لنا كمجتمع عربي في الداخل الفلسطيني كما كان الحال في العام 2015، أن نرثيها بما نرثي به عزيزا علينا انتقل الى رحمة الله تعالى؟!!
نعم، يحق لنا ان نرثيها، وتستحق هي ان نرثيها، لكن المحزن انها ستنتقل لتنضم الى صفحات بيضاء حققتها الامة في تاريخها، ثم ضيعها أبناؤها وهم في كامل وعيهم العقلي والجسدي بسبب خلافات كانت وما تزال السبب المباشر في انحطاط أمتنا العربية والإسلامية في أكثر من منعطف تاريخي! ستنتقل الى هنالك، إلى عالم المجهول تشكو الى الله ظلم أبنائها قبل اعدائها، وتندب حظها الذي أوقعها في أيدٍ لم يُقَدِّرْ بعضهم قيمتها، فدهسوها بأحذيتهم الثقيلة، وضَحُّوا بها دون ان يَرِفَّ لهم جفن على صخرة اطماعهم وأوهامهم ونزعاتهم :
لك الله ايتها "المشتركة" يا من جسَّدْتِ الوحدة العربية بصورة مشرفة للمرة الأولى منذ نكبة العام 1948، أي بعد نحو سبعين عاما من مشوار الكفاح الوطني الذي خاضته الجماهير العربية في الداخل.
لك الله ايتها "المشتركة" يا من شَكَّلْتِ النموذج الذي جاء على غير ميعاد وسط منطقة عربية – فلسطينية صاخبة، من أبرز سماتها تفتيت المفتت، وتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ.. قَدَّمَ المجتمع العربي داخل إسرائيل النموذج الذي يستحق ان يكون مثالا يحتذى به فلسطينيا وعربيا.
لك الله ايتها "المشتركة" يا من حجزْتِ للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني مكانا لهم كقوة ثالثة في الكنيست بعد الحزبين الكبيرين، لأول مرة في تاريخها، الأمر الذي أكسبها زخما فرضت بسببه حضورها اللافت من جهة، وإرادتها على الحكومة والبرلمان من جهة أخرى، استطاعت من خلاله تحقيق إنجازات تجاوزت إنجازات الأحزاب العربية منفردة كما في الماضي.
لك الله ايتها "المشتركة" يا من حُزْتِ على احترام حكومات العالم ومؤسساته الدولية التي بدأت تتعامل مع المجتمع العربي كمجوعة قومية ذات تمثيل معتبر يستحق الاحترام ويجب الاصغاء اليه..
لك الله ايتها "المشتركة" يا من شكَّلْتِ حاضنة لكل احزابها ونوابها، وغطاء لكل مجتمعها ونُخَبِهِ ونشاطاته الوطنية، وسندا لمؤسساته الجامعة وهيئاته التمثيلية كلجنة المتابعة واللجنة القطرية للرؤساء، ولجان الطلاب في الجامعات والمعاهد العليا وغيرها.. أصبحوا بك جميعا أكثر قوة، وأعمق تأثيرا، واقوى ثقة بالنفس..
كيف فَرَّطَ بك البعض بهذه السهولة ركضا وراء سراب خادع، وتحقيقا لأطماع أقل ما يُقال فيها انها لا تصل الى كعب حذاء قضايانا الوطنية وملفاتنا الساخنة والتحديات الخطيرة والمصيرية التي نواجهها!!
لم تولدي ايتها "المشتركة" لتكوني لعبة صبيان يمكن ان يعرضها البعض لخطر الانهيار مهما كانت الأسباب، كما لم تكوني يوما ميدانا لمنافسات رخيصة ولسجالات فارغة، ولا ساحة لمناورات مكشوفة، ولا حلبة لليِّ الاذرع وعض الأصابع وللمصارعة السياسية الحرة!!
كنت وستظلين إلى الأبد إنجازا تاريخيا، وفريضة وطنية، وضرورة سياسية واجتماعية.. عليه، فكل من عمل على هدم بنيانك مهما كانت المبررات والاسباب سيدخل التاريخ من اضيق الابواب، وسيسجل كمرتد عن واحد من أجمل الإنجازات التي حققها المجتمع العربي سياسيا في الداخل الفلسطيني منذ نكبة فلسطين، وبذلك يتحمل وحده المسؤولية السياسية والاخلاقية عن نتائج هذا السلوك المرفوض.
(2)
لما يُصِرُّ العرب على إعادة ارتكاب خطاياهم مرة بعد مرة؟!! لماذا يصرون على تكرار اخطائهم فيقدمون الشخصي الضيق على العام الجامع؟!! لماذا هم مسكونون بهوس التدمير الذاتي، حتى أصبحوا كالفراش المتهاوي بعناد نحو نار الموقد ليلقى حتفه هناك في غبطة وحبور؟!!
لماذا يصر البعض دائما على الاحتكام للغرائز والنزوات والاعتبارات التي لا تعبر عن الهم الجمعي، في تغييب متعمد للمنظومات القيمية الحاكمة والقادرة على تحرير الوعي والإرادة والقرار، فتسجد الروح لصنم ال "انا" سواء كانت فردية او جماعية، ويستسلم العقل لقيود النفس الامارة بالسوء، ويُسجن المنطق في زنازين الهوى، فتنزلق العلاقات إلى درك سحيق، وتهوي حصون المجتمع الى قعر بلا قرار، وتحرق نيران الصراعات والنزاعات ساخنة كانت او باردة، الأخضر واليابس فتحول حدائقنا الغناء الى صحراء قاحلة غير ذات زرع، وتهدم ما تبقى من قلاعنا فتهوي على رؤوس أصحابها بوعي وبغير وعي، وتشتت شملنا، وتشمت بنا اعدائنا، وتكشفنا أمام العواصف والرياح القواصف من التحديات والمخاطر فلا نقوى على مواجهتها ناهيك عن هزيمتها!
(3)
انتابتني مشاعر مختلطة وانا اتابع اخبار المفاوضات الجارية/المتوقفة/المنتهية إنقاذا للمشتركة التي لا تمثل في رأيي "تشكيلا" سياسيا، ولا "توليفة" انتخابية، وإنما عنوانا لكرامتنا الوطنية التي رجونا ان تكون مقدمة لمشروعنا الوطني الذي انطلق قطاره ليستمر في انطلاقته دون توقف حتى يصل غايته في الاعتراف بنا كأقلية قومية لها كامل الحقوق في أرض وطنها وعليه أيضا..
لا أدري وانا اتابع كل ذلك لماذا تذكرت "داحس والغبراء" بين عبس وذبيان، و "حرب البسوس/ بين بكر وتغلب" وحرب "الفجار" بين قريش وكنانة وغطفان وهوازن، وحرب "بعاث" بين الاوس والخزرج، وغيرها من الحروب التي سماها المؤرخون (لا أدري لماذا؟!!) ب "أيام العرب".. ظننت يومها حينما سمعت بهذا المصطلح لأول مرة انها أيام لا بد ان تكون محطات عز وفخار، لكني تفاجأت حينما عرفت انها لم تكن أكثر من أيام ذل وانكسار..
تلك "أيام" خاضها العرب بإصرار أشبه بالهوس القهري، في مرحلة عاشوا فيها في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، خاضوها بوعي كامل لكنه أسيرُ مفاهيم ومنظومات "قيمية" زائفة جعلت من أمة العرب في تلك المرحلة السوداء أمة ممزقة كالريشة في مهب الريح، وحولتهم الى كيان هش بلا ثقل مهما كان نوعه في موازين السياسة والحضارة والمدنية..
كانت تلك الحروب مجرد ثمرة نكدة لمنظومات حاكمة اعتمدها العرب حتى أصبحت من الثوابت الحاكمة التي يُعتبر الخروج عنها خروجا عن "مقدسات" بالرغم من نتائجها المدمرة التي كادت ان تخرج العرب من التاريخ نهائيا لولا الإسلام التي أشرقت شمسه في سمائهم فنقلتهم من الحضيض الى القمة، ومن الانحطاط الى التقدم والازدهار، ومن الذلة الى العزة، ومن الانقسام الى الوحدة، ومن الهزيمة الى النصر.. لم يكن ليتحقق كل ذلك لولا التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في القناعات والمفاهيم (التغير).. فلما وقع ذلك، تحول العرب الى أمة شامخة بعدما كانوا نسيا منسيا!
لماذا تذكرت أيضا صراعات العائلات الفلسطينية المتنفذة وفصائلها المسلحة عشية النكبة الفلسطينية عام 1948، والتي كانت سببا مباشرا في ضياع فلسطين وتهجير شعبها..
لماذا تذكرت صراعات الدول العربية السبعة التي دخلت حرب العام 1948 وهي الخاضعة للدول الاستعمارية، فبدل ان تحرر فلسطين من عصابات صهيونية جاءت من كل مكان، وقَّعَتْ مع هذه العصابات اتفاقات (رودس) التي ضيعت فلسطين تماما، وساهمت في هجرة شعبها وضياع قضيتها حتى يومنا هذا؟!
لماذا تذكرت سقوط الخلافة العثمانية التي كانت المظلة الجامعة للامة العربية والإسلامية (الجامعة الإسلامية التي نادى بها السلطان عبدالحميد الثاني)، بعد ان طعنها العرب في مقتل طمعا في حكم زائف مَنَّتْهُم به بريطانيا المستعمرة والراعية لمشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين، فلا هم أقاموا دولة، ولا هم حققوا وحدة، بل كانت تلك المرحلة بداية السقوط المستمر حتى هذه اللحظة!
لماذا تذكرت اتفاقية (سايكس بيكو) التي أسست لانحطاط الأمة العربية وهزيمتها، وَمَكَّنَتْ للشتات اليهودي أن يتجمع في دولة، وللمتحد العربي ان يتشتت في اثنتين وعشرين؟! أشنع ما في هذا المشهد أن امتنا تُجمع على ان هذه الاتفاقية كانت مؤامرة استعمارية ضد الأمة جاءت لخدمة المشروع الصهيوني على حساب المشروع الوطني العربي.. إلا أنه ما من أحد أشد حرصا على تنفيذها وحمايتها بكل إخلاص وصدق وتفاني من النظام العربي الرسمي بحرصه على صيانة نتائجها التي كانت وما تزال السبب الأوحد لتهاوي الامة وانحطاطها الحالي! تناقض غريب!
تذكرت أخيرا الواقع الفلسطيني البائس الذي أصبح محل تندر شعوب الأرض قاطبة.. فلسطين التي تعيش تحت الاحتلال الصهيوني الذي يقضم ارضها، ويهود مقدساتها، ويقتل شعبها، ويقضي تدريجيا على مستقبلها وحلمها في الاستقلال وكنس الاحتلال، ينشغل قادة حركاتها وفصائلها في صراعات ونزاعات كانت بالأمس سببا في ضياع فلسطين، لكنها تعود اليوم لتكون لها الكلمة العليا من جديد، وكأن الزمان قد جَمُدَ هناك في محطة ما من محطات العام 1948!!
(4)
ظننت للحظة عندما أجمعت احزابنا العربية مدعومة بجماهيرنا قاطبة عام 2015، على إقامة القائمة المشتركة أننا مختلفون حقا عن كل العرق العربي والإسلامي.. قلت في نفسي، لعلنا نضجنا أكثر بسبب موقعنا المميز في الخندق الأول في مواجهة المشروع الصهيوني..
فرحنا جدا، لكن فرحتنا لم تطل..
أثبتنا – ويا للحسرة – أننا لا نختلف على باقي العرب، بل ربما نحن أسوأهم.. وَأدْنَا مولودتنا " المشتركة" بأيدينا ولنفس الأسباب التي ضيعت الامة وضيعت فلسطين عبر تاريخا الطويل.. لم نتعلم الدرس.. لا نريد ان نتعلم الدرس..
مصيبتنا أننا نعتبر الكلام فِعلا. ليس من فارق بين الاقوال والافعال في تقاليد انحطاطنا العربي.. بعض قيادات مجتمعنا وسياسيوه مجرد "مطربون" يستميلون الناس بالكلمة والنبرة وايقاع الصوت والحركة! لكنهم عند الامتحان يرسبون بعلامة صفر، لأنهم لم يتعلموا من تجاربهم ولا من غيرهم، ويصرون على الوقوع في الهاوية كما وقعوا!
كانت "المشتركة" هي الامتحان التي سقط فيه من سقط، فهل سيعود البعض الى وعيهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
* إبراهيم عبدالله صرصور- الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني