من حفظ القرآن، مرورًا بتعلم العربية ثم ترجمة معاني كلماته، وصولًا إلى إصداره أول تفسير له بالأمازيغية؛ أبرز محطات مسيرة العالم الجزائري “سي حاج محند الطيب” الحافلة، غير عابئ خلالها بالعقبات والصعاب.
الأمازيغي “الطيب” توّج مسيرته “القرآنية” المثيرة بإصداره، مؤخرًا، التفسير الأول من نوعه؛ مؤكدًا مواصلة العمل على تعميق جذور الأواصر بين مختلف مكونات المجتمع الجزائري انطلاقًا من القاعدة الثقافية والحضارية المشتركة.
وفي حديث للأناضول، قال “الطيب” إنه حفظ القرآن في طفولته دون أي معرفة باللغة العربية، بل إنه كان يعتقد آنذاك أن القرآن إنما هو للتلاوة لا للفهم.
البداية من “الزاوية”
ولد العالم الجزائري في 20 يونيو / حزيران 1934 في بلدية “إيفرحونن” بمحافظة تيزي وزو (شرق)، والتحق بزاوية فيها حيث حفظ القرآن.
وفي تلك الزاوية بدأ الطيب بتعلم بعض الكلمات العربية، ليصحح اعتقاده ويبدأ بالاهتمام بفهم الآيات، قبل أن ينتقل إلى محافظة بجاية (شمال شرق) عام 1948 لتلقي دروس لغوية إضافية.
وعام 1953، التحق بمعهد “ابن باديس” في قسنطينة (شرق)، إلا أنه سرعان ما التحق بالثورة (1954-1962) ضد المستعمر الفرنسي، ليسجن عام 1958 حتى نيل بلاده الاستقلال عام 1962.
لم يثن السجن “الطيب” من مواصلة مسيرته لفهم القرآن، فتابع دراسته الجامعية متخصصًا الأدب العربي، وتخرج عام 1966، ليشغل بعدها عدة مناصب بينها أستاذ مساعد في جامعة تيزي وزو، قبل انتدابه عام 1985 إلى فرنسا كمفتش لدى أبناء الجالية، وبقي هناك 4 سنوات.
خلال تلك المسيرة، راودت الرجل فكرة ترجمة معاني كلمات القرآن إلى الأمازيغية عدة مرات، سيما بعد دراسته بمعهد ابن باديس، لكنه تخلى عنها مجددًا بعد تخرجه من الجامعة.
ويوضح سبب ذلك بالقول: “إن الأمازيغية، وبالأخص اللهجة القبائلية؛ لغة معاملة وضيقة جدًا وتنتشر في بيئة بسيطة”، وهو ما يعيق نقل المعاني العربية إليها بدقة.
ويضيف أنّ الفكرة عادت سنة 2000، إثر طلب بهذا الخصوص تقدم به وزير الشؤون الدينية الأسبق “أبو عبد الله غلام الله”.
وقال: “عندما جاءت الفكرة من الوزير، زالت مخاوفي، لأنني سأتعامل مع السلطات الرسمية”.
وتابع أنه شرع في إنجاز الترجمة بين عامي 2000 و2005، وصدرت أول طبعة لها في السعودية عام 2010.
من الترجمة إلى التفسير
شكل طبع ترجمة “الطيب” دفعة قوية له للمضي نحو التفسير، الذي قال إنه ضروري لتوضيح النصوص، سيما المترجمة من لغات أخرى.
وبالفعل، باشر على الفور العمل على المؤلف، الذي أطلق عليه اسم “التفسير الميسر لكلام الله الموقر”، حتى رأى النور في 12 يناير / كانون الثاني 2019، بالتزامن مع الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة 2969.
ومجددًا واجه عوائق لغوية جمة أثناء عمله، إلا أنه لجأ إلى سماع أغاني وأشعار بالأمازيغية لتصيد الألفاظ والاستخدامات اللغوية المختلفة للاستعانة بها.
وأضاف أن هدفه من ذلك العمل الفائق الدقة يتركز في “إطلاع الذين لا يفهمون العربية من الأمازيغ على أسرار وكنوز ومعاني القرآن العظيمة والسامية”.
وبشأن اختياره الحرف العربي في كتابة النص الأمازيغي، قال الطيب أنه رجح ذلك بعد تجريب استخدام حرف “التيفيناغ” الأصلي، والحرف اللاتيني.
وأوضح: “لو كتبته بالتفينياغ لما تمكن الكثير من الجزائريين قراءته، وعندما جربت الحرف اللاتيني استعرضته مع الأصوات الأمازيغية فروقات كبيرة”، مشيرًا إلى الحاجة إلى اختراع 17 حرفًا لكتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني.
وتابع: “جئت إلى العربية فاستعرضتها مع الأصوات الأمازيغية ووجدت أنها لا تناسبها تمامًا”، إلا أن الفروق لم تكن كبيرة كما هي مع اللاتينية، وتطلب الأمر اجتهادًا وتعديلات بسيطة ليتم التوافق.
ودعا الطيب إلى تبني الحرف العربي في كتابة الأمازيغية، سيما أن من شأن ذلك تعزيز وحدة البلاد الوطنية ونشر تعليم الأخيرة في المجتمع بشكل أوسع، سيما في المدارس.
وأشار ختامًا أنه بصدد تأليف عمل أمازيغي بالحرف العربي، حول القصص والحكايات الشعبية الأمازيغية القديمة.
ويشكل الأمازيع نسبة كبيرة من سكان المغرب العربي، تفوق 20% في الجزائر وفق أغلب التقديرات؛ وقد شاركوا في نسج الحضارة الإسلامية وأثروا في ثقافتها، ولهم إسهامات إنسانية كبيرة سيما إبان ذروة التحضر العالمي بالعصور الوسطى في الأندلس (إسبانيا).