الجمعة 11 اكتوبر 2019 08:39 م بتوقيت القدس
قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في نهايات أيلول/ سبتمبر الماضي: "نسعى إلى تأسيس ممر سلام بعمق 30 كيلومترا وعرض 480 كيلومترا في سورية، لكي يتمكن المجتمع الدولي من توطين مليوني سوري في المنطقة".
وأصبح "ممر السلام" هذا، أقرب للأمر واقع، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الإثنين الماضي، بأنه قد يسحب قواته من شمالي سورية.
لكن، وبرغم النبرة الإنسانية الظاهرية في كلمة إردوغان، فإن الرغبة التركية لاحتلال شمالي سورية، مدفوعة بأسباب تارة مثيرة للسخرية، وتارة خبيثة. فـ"ممر السلام" سيشكل مكانا مناسبا للتخلص من اللاجئين السوريين الذي أصبح وجودهم في تركيا عبئا سياسيا، أو هكذا يُنظر إليه على الأقل. كما أنه سيمنح أنقرة فرصة القضاء على الحكم الكردي شمالي سورية، إضافة إلى إمكانية تدمير الحلم الكردي الديمقراطي الراديكالي.
منذ اندلاع الحرب السورية، بحث ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين سوري عن ملاذ في تركيا. وفي عام 2016، وقّع إردوغان اتفاقية بمليارات الدولارات مع الاتحاد الأوروبي لإبقاء اللاجئين في البلاد، منعًا من تدفقهم إلى أوروبا. ولكن مع استمرار تدفق الفارين من المعارك في سورية، ازدادت المشاعر المعادية للاجئين في تركيا. وتبحث السلطات التركية بشكل متزايد عن طرق لإخراج السوريين من البلاد.
ولقد استفادت المعارضة التركية المتفككة، من تنامي العداء للاجئين السوريين، خصوصا الأحزاب المحافظة منها. وفي حين أن "الحزب الديمقراطي" اليساري الموالي للأكراد يُعد بالغ التعددية، ويدفع باتجاه إرساء أجندة اجتماعية واقتصادية تقدمية، فإن العديد من معارضي إردوغان الآخرين هم من القوميين العلمانيين الذين لا يتعاطفون كثيرا مع الفارين من نظام الأسد.
ويعود الفضل لفوز "حزب الشعب الجمهوري" ببلدية إسطنبول في حزيران/ يونيو الماضي، إلى خطابه المعادي للأجانب، جزئيا. وفي الليلة التي فاز بها الحزب، تصدر "تويتر" في تركيا، تغريدات مهللة بالفوز ومطالبة بترحيل السوريين في الآن ذاته. ولم تمض فترة طويلة على توليه المنصب، حتى اشتكى عمدة حزب الشعب الجمهوري الجديد من الانتشار المزعوم للافتات المكتوبة باللغة العربية في بعض أحياء المدينة.
لذا، بينما يُصر إردوغان وحلفاؤه على إبراز مساعيهم الخيرية في رغبتهم لإلقاء ملايين اللاجئين السوريين وراء الحدود، فيقف وراء ذلك، منطق سياسي محلي يضمر شرا لا خيرا.
الحكم الكردي في الشمال.. وسياسات القوة العظمى
تُعد قوات سورية الديمقراطية (قسد)، العقبة الأساسية أمام خطط إردوغان للسيطرة على شمالي سورية. ولطالما اعتبرت تركيا هذه الحركة، فرعا من "حزب العمال الكردستاني" الذي تحاربه أنقرة منذ عام 1984، وتراه حركة "إرهابية".
في بعض الأحيان، سعى إردوغان إلى كسب الأصوات المتأرجحة بين الناخبين الأكراد من خلال التواصل مع حزب العمال الكردستاني. ففي الفترة التي سبقت انتخابات رئيس بلدية إسطنبول في حزيران/ يونيو الماضي، مثلا، سمحت الحكومة للصحافة بنشر خطاب من الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، على أمل أن يثني الناخبين الأكراد عن دعم المعارضة.
لكنه، وفي معظم الأحيان، استغل تأييد الناخبين الأكراد المحدود جدا له، وخصوصا منذ صيف 2015، كمبرر لتدابير صارمة ضد الأكراد في تركيا، مثل الاعتداء على المدن الكردية، وتقويض المنافذ الإعلامية الكردية، واعتقال الزعماء السياسيين الأكراد وسجنهم، وطرد المسؤولين الأكراد المنتخبين من مناصبهم.
ويتبنى إردوغان اليوم، وبشكل متزايد، نهجا ميالا لقتال الحركات الكردية خارج الحدود التركية. فعلى سبيل المثال، برغم العلاقات الاقتصادية والسياسية الوطيدة التي تجمع تركيا، وحكومة إقليم كردستان في العراق، وهي علاقة يعززها العداء المشترك بينهما، لحزب العمال الكردستاني وفروعه، عارضت تركيا بشدة الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق في أيلول/ سبتمبر 2017. وفي أعقاب نجاح الاستفتاء، فرضت أنقرة على حلفائها الأكراد في حكومة إقليم كردستان، حصارا اقتصاديا شديدا.
أما عدائيته لـ"قسد" فهي أكثر وضوحًا، مع أن الحركة الناشطة في سورية تجنبت الدعوات لاستقلال كردي. في حين أن هذا العداء متأصل جزئيًا في روابط "قسد" بحزب العمال الكردستاني، إلا أنه يمكن فهمه أيضًا على أنه نتاج نجاح الأكراد السوريين.
وفي أعقاب صعود "داعش" وسيطرتها على مناطق واسعة من العراق وسورية، شكل الأكراد السوريون، حجر الأساس بين المجموعات التي تحالفت مع الولايات المتحدة، لمحاربة التنظيم الإرهابي. وكان التحالف هذا على شاكلة "زواج صوري"، فمن حيث المعايير الأيديولوجية، أدى هذا إلى وضع في غاية الغرابة، حيث سهل الدعم العسكري الأميركي تشكيل تجربة يسارية مبنية على تفسيرات أوجلان، لنظريات الأناركي الأميركي موري بوكتشين، المطالبة بـكونفدرالية ديمقراطية. وكان الجزء الأخطر في هذا التحالف، من وجهة نظر واشنطن، أنه قوض علاقاتها من أنقرة حليفتها، خاصة مع نمو عدائية إردوغان للأكراد السوريين. وباختصار، خلقت شراكة الولايات المتحدة مع الأكراد السوريين توترات غير مستدامة في السياسة الخارجية الأميركية.
وبدا من المحتم أن الولايات المتحدة، ستضطر في مرحلة ما إلى الاختيار بين أكراد سورية وأنقرة، وكان يمكن تأجيل هذا القرار مع استمرار الحرب ضد "داعش"، لكن وبعد القضاء على التنظيم الإرهابي، انتهى مبرر بقاء الوجود الأميركي في سورية. ومع إعلان ترامب الانسحاب من سورية، وهو قرار بدأ بحثه منذ كانون الأول/ ديسمبر 2018، فإن السياسة الأميركية الخارجية، تُصلح التناقض بدعمها "قسد"، لصالح إردوغان.
وكرد على منتقديه، غرّد ترامب في "تويتر" موضحا توجهه السياسي: "سنحارب أين تكمن مصالحنا، ولن نحارب إلا لكي نفوز".
ومن شأن تسوية ترامب مع أنقرة أن تفتح الطريق أمام تركيا للتقدم نحو المنطقة الخاضعة لسيطرة "قسد"، وتطهير سكانها، وإعادة تشكيل التركيبة السكانية لشمالي سورية بالكامل.
تعريب وإعادة هيكلة مناطق الأكراد شمالي سورية
جرت محاولات كثيرة لإعادة التوازن الديموغرافي في شمالي سورية على مرّ التاريخ الحديث. فبعد استقلال سورية، حاولت الحكومات القومية العربية المتتالية في دمشق، تخفيف الطابع الكردي للشمال السوري. وفي عام 1962، جُرد نحو 20 بالمئة من الأكراد السوريين من جنسيتهم، وهي خطوة حرمتهم من القدرة على تملك الأراضي أو العمل في القطاع الحكومي. وفي سبعينيات القرن الماضي، حاول النظام البعثي بناء "حزام عربي" لقطع الأكراد عن المجتمعات الكردية في الدول المجاورة.
وكانت الخطوات العملية لتعريب الشمال السوري، وهو موطن العديد من الأقليات العرقية والدينية الأخرى، مصحوبة بحرب أيديولوجية، فقد عُربت أسماء الأماكن، وقُيد استخدام اللغة الكردية، وحُظرت مظاهر الخصوصية الثقافية الكردية.
وعلى نطاق أوسع، سعى النظام السوري باستمرار، إلى تصوير المجتمع الكردي على أنه صنيعة متطفلين أجانب، معظمهم من اللاجئين الأكراد الهاربين من قمع تركيا. وتماشى حزب العمال الكردستاني مع سردية نظام حافظ الأسد في الثمانينيات والتسعينيات تجاه الأكراد السوريين، لأنه كان يتلقى دعما منه. لكن نشأة الإدارة الكردية الراديكالية في شمالي سورية في أعقاب الحرب، أظهرت مدى ضعف حملة التعريب التي قادها النظام. ويبدو الآن أن إردوغان يسير بخطوات مشابهة لتلك التي فشلت فيها الحكومات السورية المتعاقبة.
وبالفعل، أوضح الرئيس التركي، مؤخرا، رأيه بشأن من يعتبرهم المالكين الحقيقيين للشمال السوري، أي العرب. ولن نحتاج إلى تخمين الشكل الذي سيتخذه الاعتداء التركي على شمالي سورية، ففي كانون الثاني/ يناير 2018، شنت القوات التركية اجتياحا لا مبرر له، لمدينة عفرين التي كانت خاضعة للسيطرة الكردية، مهجرة مئات الآلاف من المدينة ومخلفة دمار هائل.
وفي تلك الفترة، كانت التصريحات الرسمية التركية مشابهة إلى حد كبير لما تبدو عليه اليوم، فقد أعلن إردوغان أن عفرين هي مدينة ذات أغلبية عربية. ومنذ احتلالها، انخرطت الميليشيات الإسلامية المدعومة من القوات التركية في ترهيب الأكراد والاستيلاء على ممتلكاتهم وأراضيهم وتسليمها إلى أسر عربية. وإذا ما سُمح لتركيا بغزو واحتلال بقية شمالي سورية، فمن المحتمل أن يعاني الأكراد من نفس المصير المؤسف.
نصر لمعادي الإمبريالية؟
كما يوحي لنا رد الفعل اليساري تجاه الانسحاب (الفاشل) في كانون الأول/ ديسمبر 2018 للقوات الأميركية، فإن يساريين كُثرا من أولئك المعادين للإمبريالية، سيجدون بلا شك، أن رحيل الولايات المتحدة عن سورية أمر إيجابي. وبالتأكيد، فإن معارضة العسكرة الأميركية والتوسع الإمبريالي يستحقان الثناء. لكن هل يمكن اعتبار الانسحاب الأميركي الذي سيتيح لتركيا بالقضاء على إحدى أكثر التجارب الحيوية التي أُجريت مؤخرا للحكومة الاشتراكية، وشن حملة إبادة ضد الأكراد، أمرا مفيدا لليسار العالمي؟
يمثل التهديد التركي للأكراد السوريين، مسألة وجودية. فإذا ما احتلت تركيا الشمال السوري، سيُدمر التقدم الاجتماعي الذي تحقق في المنطقة، بما في ذلك التقدم في تحرير المرأة والحكم الذاتي الشعبي. ولقد رأينا النموذج التركي وميلشياته الإسلامية، الذي عمل على عكس هذه المكاسب في عفرين.
وفي نظرة أكثر شمولا، فستُنفذ تركيا خطتها، لإعادة توطين ملايين اللاجئين السوريين العرب في المنطقة على حساب السكان الأكراد. ويبدو أن إردوغان ليس عازما على محو هذه الإدارة الكردية المحددة فحسب، بل على إلغاء إمكانيات الأكراد للعب دور حاسم في شؤون شمالي سورية إلى الأبد. مرة أخرى، تشير تصرفات تركيا في عفرين؛ الاستيلاء على الأراضي الكردية، وطرد الأكراد من ديارهم، إلى نذير مشؤوم بالمصير المحتمل لبقية الأكراد شمالي سورية.
لذا، نطرح هنا بعض الأسئلة المهمة: هل سيكون انسحاب الولايات المتحدة الذي يسهل غزوًا تركيًا، بمثابة انتصار لقضية السلام؟ وبالنظر إلى عضوية تركيا الطويلة في حلف الناتو، هل يمكن اعتبار احتلالها لشمالي سورية بمثابة ضربة للإمبريالية الأميركية؟