الاحد 17 نوفمبر 2019 20:55 م بتوقيت القدس
شهر كامل مرّ على انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول في لبنان، كان كافياً لتغيير العديد من المعادلات السياسية والاجتماعية في هذا البلد، وإظهار قدرة الشعب على رفع الصوت عالياً طلباً للتغيير، متحدياً كل ألاعيب السلطة ومناوراتها الهادفة لإجهاض الانتفاضة. ثبات المحتجين على مدى شهر كامل على مطالبهم السياسية والاقتصادية تحت شعار “كلن يعني كلن”، وإبقاء زخم الحراك الشعبي قائماً وتكيّفه مع تطورات كل يوم على حدة والذهاب بعيداً في مواجهة مخططات الطبقة الحاكمة، ينذر بتغيرات عدة على المشهد السياسي في لبنان، سواء لجهة العلاقة بين أطراف السلطة القائمة حالياً أو بين الشعب والسلطة، خصوصاً بعدما جاء تفجر الانتفاضة ليؤكد أن المنظومة الحاكمة في لبنان لم يعد بإمكانها الحكم الطائفي ــ الفاسد على المنوال نفسه الذي كان سائداً منذ انتهاء الحرب الأهلية، وهي تعاني اليوم من أزمة وجودية تحاصرها.
وكشفت معطيات الشهر الأول على الانتفاضة اللبنانية محدودية العقل السياسي للنظام اللبناني، خصوصاً أن البعد السوسيولوجي للطبقة الحاكمة ينطلق من واقع أنّ الوصول إلى السلطة هو الغاية، على قاعدة أن لا أحد سيجرؤ على مواجهتها، بسبب الانقسامات الطائفية والمناطقية والمحاور الإقليمية. قد تصحّ هذه المعادلة في كل مراحل لبنان ما بعد الحرب (1975 ـ 1990)، وتنطبق على “جمهورية الطائف” (الاتفاق الموقّع في المدينة السعودية عام 1989)، المستمرة حتى اليوم. غير أنّ انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول حملت الكثير من المؤشرات على ضعف الطبقة الحاكمة من جهة، وعلى هشاشة النظام من جهة أخرى إن كانت الانتفاضة عابرة للانقسامات. يكفي النظر إلى سيل الأخبار المتلاحقة والخطابات المتسارعة لبعض السياسيين، و”اختفاء” البعض الآخر لفترة طويلة، سواء عن التغريد على “تويتر” أو في تسجيل المواقف الإعلامية.
في المقابل، كان الناس وحدهم من يتكلمون، قبل أن يشدّ أنصار السلطة من عضد بعضهم، ويبدأوا بضخّ الأخبار الكاذبة وتخوين المشاركين في الانتفاضة وتحوّل بعض الإعلاميين إلى منصّة لترجمة مواقف السلطة. أساساً، كانت للسلطة أدوات قمعية عدة، تبدأ من الضغط على النقابات الخاضعة لسيطرتها وتنتهي بسحب الناشطين من بيوتهم وتعذيبهم وضربهم، سواء في السجون التابعة للقوى الأمنية، أو تلك العائدة للأجهزة الحزبية. مع ذلك، فإنّ شهراً من عمر الانتفاضة أظهر الكثير من الصبر لدى المنتفضين.
في 17 أكتوبر، ومع الكشف عن نية وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال، محمد شقير، زيادة ضريبة على المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت، بدأت الاعتراضات تعلو، وتداعى البعض للاحتجاج في الشارع. كان التجمّع خجولاً، فالسلطة متيقنة من أن الاحتجاج سينتهي سريعاً. حينها، كان مجلس الوزراء منعقداً، وفي أثناء خروج موكب وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال، أكرم شهيّب، تصدّى له المحتجون، فأطلق أحد مرافقي الوزير النار في الهواء، وعلى الأثر تدفق الناس إلى الشوارع والساحات. ظنّ أركان السلطة أنّ الأمر سينتهي في غضون بضعة أيام. استقال وزراء القوات اللبنانية الأربعة عشية 19 أكتوبر. بدأت الحكومة بالاهتزاز. سعى أركانها الأساسيون إلى التماسك. تلاحم لم يدم سوى 12 يوماً، وانتهى باستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في 29 أكتوبر.
عملياً، كان الحريري يراقب ما يحصل في ما كان يعتبره “بيئة حاضنة له”، وهي مناطق صيدا في الجنوب، وطرابلس وعكار في الشمال، وبعض أحياء العاصمة بيروت. وجد أنه بات خارج هذه البيئة. وحين فكّر في الاستقالة، أتاه حسين الخليل، معاون الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله. نصحه بعدم الاستقالة، وأخبره أن الاحتجاجات “ستنتهي قريباً” و”نحنا حدّك. كون قوي” (نحن بجانبك. كن قوياً). لكن الحريري حسم أمره، في ظلّ اعتداء عشرات الشبان الذين أتوا من المناطق المؤيدة لحزب الله وحركة أمل (التابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري)، على المتظاهرين، وأحرقوا خيمهم في ساحتي رياض الصلح والشهداء وسط بيروت في 29 أكتوبر. كان حدثاً فارقاً، خصوصاً أن هذا الثنائي، بالتشارك مع “التيار الوطني الحرّ” (حزب رئيس الجمهورية ميشال عون)، اعتصموا لعام ونصف عام أمام السراياً الحكومية في رياض الصلح، بين عامي 2006 و2008، بهدف إسقاط حكومة فؤاد السنيورة في حينه. خرج الحريري من الحكومة، على الرغم من رفض نصر الله استقالتها أساساً. بالنسبة إليه، هذه الخطوة ستليها أخرى موجهة ضد رئيس الجمهورية ميشال عون و”حزب الله”.
تصرّف “حزب الله” و”حركة أمل” كان أقرب إلى تصرّف أطراف مصدومة، فقمع أتباعهما الاحتجاجات في مناطق صور والنبطية وبنت جبيل وكفررمان في الجنوب، والهرمل وبعلبك في البقاع. كان واضحاً أنهما منحا الضوء الأخضر لأنصارهما للتعدّي على المتظاهرين. موجة التخوين التي طاولت الناس، كانت أقرب إلى خشية الثنائي من فقدان سيطرتهما على “البيئة الحاضنة”. لم يتمكن نصر الله في إطلالاته العديدة من إقناع أحد، سوى جمهوره وحلفائه، بمخاوفه من الانتفاضة الشعبية، على الرغم من تخوينها، وإلقاء الشبهات حولها. وترافقت دعوته لمن سمّاهم “جمهور المقاومة” إلى الخروج من الساحات والشوارع، مع ترهيب من نوع آخر، تمثل بمطاردة مؤيدين للانتفاضة وجهوا انتقادات إلى “حزب الله” و”حركة أمل” وتصوير مقاطع لهم وهم يتراجعون عن آرائهم بعد تعرّضهم للضرب والتعذيب، من دون أن يحاسب أحد المعتدين، في إشارة إلى أنّ الدولة تحمي مثل هؤلاء. وأدت “حركة أمل”، أدواراً تخويفية عدة، من خلال ترهيب المحتجين في مناطق نفوذها، خصوصاً في الجنوب، ومن خلال استعراض القوة الذي تكرر أكثر من مرة في شوارع بيروت أو أمام مقرّ الرئاسة الثانية في عين التينة، في بيروت، بذريعة عدم السماح للمتظاهرين بالاقتراب منه.
لدى “التيار الوطني الحرّ”، كانت الأمور أكثر حدّة. أساساً، التيار فقد جزءاً كبيراً من قاعدته النضالية أيام الجامعات والوجود السوري بين عامي 1990 و2005. هؤلاء خرجوا أو أُخرجوا من التيار مع وصول وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، إلى رئاسة التيار. هؤلاء باتوا حالياً “عونيين سابقين”، ووجدوا أنفسهم في الشوارع يحملون الشعارات نفسها، التي حملها عون حين كان قائداً للجيش اللبناني في عام 1988 (دولة مدنية وحقوق اجتماعية بعيداً عن الإقطاع المالي والديني والسياسي). مع بدء موجة التخوين داخل التيار لهؤلاء، برزت انقسامات أخرى. أشخاص استقالوا من التيار خلال الانتفاضة. عائلة عون اهتزت بقوة، فصهر الرئيس الآخر، النائب شامل روكز، أيّد مطالب الثوار، داعياً رئيس الجمهورية إلى الاستماع إليهم وتأييد مطالبهم. الانقسام ترسّخ أكثر في خطاب لباسيل على طريق قصر بعبدا الرئاسي شرقي بيروت، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وصف فيه روكز، من دون أن يسميه بـ”الخائن”.
ولعون 3 بنات، اثنتان منهما أيدتا الانتفاضة، أما الثالثة فهي زوجة باسيل. انقسام التيار وتراجعه الشعبي، ظهر من خلال قطع الطرقات في المناطق التي كانت محسوبة عليه نيابياً. وزاد الطين بلة عدم اقتناع عون نفسه بمطالب المنتفضين، والاكتفاء بالقول إنه “سمع صوتهم”.
من جهته، كان رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”، النائب السابق وليد جنبلاط، يعمل على محاولة استثمار الحركة الاحتجاجية سياسياً، فبدأ برفع شعار “إسقاط العهد” قبل التراجع عنه بعد أيامٍ قليلة. محاولة جنبلاط الاستفادة من الانتفاضة جوبهت برفضٍ في بيئته، وهو الرفض الذي دفعه إلى التراجع خطوة إلى الوراء، متمسكاً بحلٍّ واحد، هو “تشكيل حكومة تكنوقراط”.
الحسابات السياسية وجدت مكاناً لها لدى “القوات اللبنانية” بزعامة سمير جعجع، التي ما إن بدأت الانتفاضة حتى سارعت إلى سحب وزرائها الأربعة من الحكومة. وعمل جعجع على محاولة الدخول بين المنتفضين في مناطق محددة، مثل جل الديب والذوق في شمال بيروت. نجح أحياناً وفشل أحياناً أخرى. يصعب الوثوق بحسن نيّات اثنين من أبرز شخصيات الحرب الأهلية في لبنان، جنبلاط وجعجع، وبأنهما قادران على أن يكونا إلى جانب الانتفاضة. وهو الأمر نفسه الذي قد ينطبق على حزب “الكتائب اللبنانية”، الذي كان أساسياً في حكم لبنان لفترة طويلة، ومساهماً في وصوله إلى هذا الدرك من التدهور، علماً أنه يقف اليوم في موقع المعارضة خارج الحكومة.
اشتباكات أهل السلطة أفضت إلى طرح تصوّرٍ يقضي بإعادة إنتاج نفسها، عبر طرح اسم النائب والوزير السابق، محمد الصفدي، ليكون رئيساً لحكومة مختلطة من اختصاصيين وسياسيين. وهو الشكل الذي يرفضه المحتجون، لأنه سيقضي على كل منجزات الانتفاضة. وطرح اسم الصفدي، المرتبط بقضايا فساد عدة داخل لبنان وخارجه، لاقى قبولاً من جميع الأطراف الأساسية: “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” و”حزب الله” و”حركة أمل”. وعلى الرغم من الرفض الشعبي، إلا أنّ السلطة تعمل على تطويع الناس بالقوة أو باللين. فبعد الجيوش الإلكترونية التي سعت إلى ضرب صورة المنتفضين، انغمس بعض الإعلاميين في “شرح مخططات أميركية وإسرائيلية وتركية” لضرب لبنان، ترجمة لحالة نكران جماعية لديهم بأن هناك شعباً يريد أن يعيش، وبدأت الأحزاب ممارسة القمع بقوة السلاح للتظاهرات والمحتجين، ثم جاءت مرحلة “شيطنة” المتظاهرين واعتبارهم من متعاطي المخدرات والسكارى، فضلاً عن اتهامهم بتلقي الأموال من السفارات. ثمّ جاء أخيراً دور الأجهزة الأمنية التي باشرت حملة اعتقالات جماعية بين المتظاهرين، عبر سحبهم من منازلهم أو من الشوارع من دون مسوّغ قانوني. ولم تكتفِ الأجهزة بذلك، بل بدأت باعتقال هؤلاء في أماكن مجهولة، ثم مُنع توكيل محامين للدفاع عن بعضهم، بمسعى من نقيب المحامين أندري شدياق، المحسوب على “التيار الوطني الحر”، في سابقة قانونية خطرة في لبنان، المعروف بكونه بلد حريات (نسبياً) لا بلداً بوليسياً.
ومع أنّ بعض المعتقلين لم يتعرّضوا لأيّ أذى، إلا أنّ البعض الآخر تعرّضوا للتعذيب والضرب المبرح، ومنهم من اضطر إلى تلقي العلاج في المستشفيات وإجراء عمليات جراحية. فضلاً عن ذلك، ضخّت السلطة أقوالاً كثيرة عن احتمال “حصول حرب أهلية” في سياق تخويفها الناس. مع العلم أن نشوب مثل هذه الحرب غير وارد في لبنان لأسباب عدة، فضلاً عن أن هدف المنتفضين بناء دولة فعلية لا إقامة دويلات.