قبل أيام، انطلق عام 2020 مع آمال كبيرة. هكذا هي الحال في بداية كلّ عام، لا سيّما بالنسبة إلى أكثر الناس قهراً. أهالي غزة من بين هؤلاء، من دون شكّ، غير أنّهم يبدون قلقين. هم يذكرون تقرير الأمم المتحدة الصادر في أغسطس/ آب من عام 2012 تحت عنوان “غزة عام 2020 – مكان ملائم للعيش؟”، ويتخوّفون ممّا ينتظرهم. فالتقرير رأى أنّ قطاع غزة لن يكون كذلك، ما لم تُتّخذ إجراءات عاجلة لتحسين إمدادات المياه والكهرباء وخدمات الصحة والتعليم، وهو ما أكّده حينها منسّق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ماكسويل غيلارد عندما صرّح أمام الإعلام بأنّه لا بدّ من القيام بتحرّك الآن حتى تكون غزة مكاناً ملائماً العيش بحلول 2020، موضحاً أنّ “العيش فيها صعب الآن (2012) بالفعل”.
على أرض الواقع، حلّ العام المذكور، فيما حصار الاحتلال الإسرائيلي مطبق على قطاع غزة ومن دون أيّ تغيير ومن دون أيّ تدخّل أممي أو غيره لتحسين شروط العيش فيه. ويمضي الغزيون في يومياتهم وسط ظروف قاسية، لا سيّما مع الاكتظاظ السكاني والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. إذاً، انتهى عام 2019 ولم تُحلّ بعد مشكلة انقطاع التيار الكهربائي في غزة على الرغم من تحسّن التغذية نتيجة المنحة القطرية المستمرّة، كذلك ما زالت مشكلة تلوّث المياه قائمة فيما أعلن متخصصون بيئيون بلوغ التلوّث نسبة 97 في المائة.
يقول الخبير البيئي أحمد بشير في حديث صحفي إنّ “غزيّين كثيرين صرفوا النظر مع نهاية عام 2019 عن استخدام المياه الواردة من البلديات، حتى للاستخدام المنزلي، بما في ذلك الغسيل. وفي المقابل، راح بعضهم يعتمد على شراء مياه محطات التحلية، علماً أنّ خمسة في المائة من الغزيين فقط قادرون على تحمّل ثمن تلك المياه”. ويتحدّث بشير عن “كارثة مياه يعيشها قطاع غزة”، منتقداً “عشرات المشاريع التي أقيمت في الأعوام الأخيرة من دون أن تلبّي حاجة الغزيّين في تحسين واقع المياه”. ويشير إلى “تمويل ضئيل للمشاريع البيئية في خلال العامَين المنصرمَين مع تزايد الأزمات البيئية والاقتصادية والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة”. ويوضح بشير أنّ “نسب الأملاح والنترات في المياه الجوفية في القطاع تتعدّى النسب المسموح بها عالمياً وتصل إلى 96.2 في المائة. وهذا ما أدّى إلى لجوء المواطن في القطاع إلى توفير مياه شربه من محطات تحلية المياه الخاصة التي تواجه هي الأخرى مشاكل، لا سيّما المشاكل المتعلّقة بالتلوّث الأحيائي. ويمكننا القول إنّنا نعيش كارثة تحتاج إلى أعوام طويلة للحلّ في بيئة تشهد كثافة سكانية”. يضيف بشير أنّ “الحلول صعبة لأنّها تحتاج إلى مصادر مياه جديدة للتخفيف من استنزاف الخزان الجوفي وتنفيذ مشاريع تحلية المياه وفق مقاييس منظمة الصحة العالمية، ومشاريع أخرى لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي”.
والمناطق السكنية القريبة من شاطئ غزة تشهد مأساة كبرى فيما يتعلّق بأزمة المياه، بفعل تداخل مياه البحر الملوّثة والمياه التي تصل إلى المنازل، علماً أنّ سكان تلك المناطق هم بمعظمهم من الفقراء، ويعيش كثيرون منهم في مخيمّات وبعيداً عن مراكز المدينة. بشرى عمران من هؤلاء السكان، وهي تضطر بحسب حديث معها إلى “استخدام مياه البلدية على الرغم من ملوحتها الشديدة”. وعند سؤالها عن عام 2020، تبتسم وتجيب: “نحن ميتون في مستنقع منذ سنوات، ولا أحد يهتم بمصلحتنا وظروفنا المعيشية. سوف يحلّ عام 2025 ولن يتغيّر شيء إلا في اتجاه الأسوأ”.
يُعَدّ قطاع الصحّة في غزة الأكثر تضرّراً بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، وقد تفاقمت الحال في عام 2019 بفعل نقص في عدد كبير في الأدوية واللوازم الطبية في المستشفيات الحكومية التي هي المتنفّس الوحيد للمرضى الغزيين. بالتالي، صاروا بمعظمهم مجبرين على شراء الأدوية من الخارج في ظل النقص المستمر، علماً أنّ أكثر من 100 صنف من الأدوية غير متوفرة في غزة بحسب ما تشير بيانات وزارة الصحة في القطاع.
تقول مريم كراجة التي تقترب من الثمانينيات من عمرها، في حديث معها أنّها عاشت في عام 2019 المنصرم “أسوأ سنوات حياتي المرضية. فقد عايشت الظروف ما بعد عام 1967 واحتلال غزة حتى تأسيس السلطة الفلسطينية، وكذلك الفترة الممتدة ما بين عام 2000 وعام 2005، إلا أنّ أيّا من الفترات الحرجة لم تكن بمثل سوء العام المنصرم. فقد تقلّص علاجي إلى نصفه، وأنا فقيرة لا أستطيع شراء ما ينقصني من أدوية”. وتعليقاً على كون قطاع غزة ملائماً للعيش في عام 2020 أم لا، ترى كراجة أنّ “في غزة، نحن البشر لا نصلح للحياة. كلنا نحمل أمراضاً جسدية ونفسية، ولا يلزمنا إلا قنبلة ذرية تقضي على القطاع كله فنموت ونستريح بدلاً من عيش العذاب يومياً”.
أمّا في قطاع التعليم، فقد اضطرّ آلاف من طلاب الجامعيين، في خلال العام الدراسي الماضي 2018 – 2019، إلى التوقّف عن الدراسة في الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. كذلك، فإنّ رؤية خرّيجين جامعيين عاطلين من العمل، نظراً إلى عدم توفّر الفرص، أمر لا يشجّع على متابعة الدراسة.
سامي أبو حطب حصل في عام 2013 على شهادته الجامعية، من دون جدوى. وهو لا يبالي، بحسب قوله، “بما يتردّد يومياً عبر الإعلام حول أنّ قطاع غزة غير ملائم للحياة”، لافتاً إلى أنّ “عام 2020 سوف يدفع كثيرين من أمثالي إلى التفكير بالانتحار بعدما سئموا من التفكير في حلول لمستقبلهم”. ويؤكد أبو حطب أنّه لا ينصح بالدراسة الجامعية “في ظل الظروف الراهنة وعدم توفّر فرص عمل في غزة”، معبّراً عن حزنه “عندما أرى طلاباً جدداً يجبرون أسرهم على تحمّل مصاريفهم الجامعية”. بالنسبة إليه، فإنّ “العالم لا يستطيع الوقوف إلى جانبنا والضغط على الإسرائيلي أو الحكومات الفلسطينية لإنقاذ مليونَي غزي يعيشون في سجن كبير”، مضيفاً “نحن ندفع ثمن سياسة محلية فلسطينية وانقسام يفيد الأحزاب الفلسطينية، والعالم يعدّنا فئران تجارب ويقيس مدى قدرتنا على التحمّل والتأقلم في مجتمع يعيش الحروب والكوارث باختلاف طبيعتها”.
من جهة أخرى، أغلقت 520 شركة ومصنعاً أبوابها في عام 2019، بحسب ما تفيد الغرفة التجارية في غزة، وقد سُرّح على أثر ذلك آلاف من العمال انضمّوا إلى 500 ألف عاطل من العمل آخرين في قطاع غزة، نصفهم من الخرّيجين الجامعيين بحسب ما يشير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
نبيل أبو لبن من الذين سُرّحوا من عملهم أخيراً، وهو كان يعمل في مجال تغليف الحلوى في مصنع أغلق أبوابه في إبريل/ نيسان الماضي، على خلفية الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية. هو لا ينفي أنّه يخبر “أحوالاً نفسية صعبة، لا سيّما مع عجزي عن تلبية متطلبات أبنائي الأربعة”، ويفكّر في “الهجرة بهدف إنقاذهم من الضياع”. بالنسبة إلى أبو لبن، فإنّ “قطاع غزة ليس فقط غير ملائم للحياة إنّما هو غير ملائم لكرامة الإنسان. ونحن اعتدنا الوقوف في طوابير للحصول على ما نحتاجه، ونتسابق كلّما نعلم أنّ إحدى الجمعيات تقدّم مساعدات إنسانية. وعام 2020 ليس إلا عاماً مشؤوماً آخر لا أكثر”.
لا يأمل الغزيون بأيّ تغيير نحو الأفضل في عام 2020، لا بل يتوقّعون تفاقم الأحوال أكثر فأكثر. وهذا ما يؤكده إبراهيم عطا الله وهو سائق سيارة أجرة فقد أحد أبنائه بسبب إصابته بسرطان المخّ قبل ثلاثة أعوام. يقول في حديث معه إنّ “حالة ابني الصحية تفاقمت نظراً إلى قلة الإمكانات الطبية في قطاع غزة. وقد وقفت في مرّات كثيرة عاجزاً عن الحصول على تحويلة مرضية عاجلة له. وفي النهاية توفي وهو ينتظر تحويلة عاجلة”. يضيف عطا الله: “لا أعلم كيف يحتفل بعض الفلسطينيين بالعام الجديد، وسط الخيبة التي نشعر بها في بلد يخضع إلى الاحتلال وفي مجتمع يموت ببطء. ونحن مع كلّ عام نزداد بؤساً في غزة، ونزداد أمراضاً وويلات. وفي عام 2020، لن يتغيّر واقعنا”.
أمّا بسام أحمد فيجزم بأنّ هذا العام سوف يكون “أسوأ من الأعوام التي مضت”. ويقول إنّ “الغزيين تهيّأوا نفسياً للعام الكارثي، على خلفية ما تناقلته وسائل الإعلام حول تقرير الأمم المتحدة الذي حذّر من أنّ قطاع غزّة لن يكون ملائماً للعيش في عام 2020”. يضيف أحمد: “يبقى أنّنا ننتظر الفرج وسط يأس وإحباط مستمرَّين”.