الاربعاء 29 ابريل 2020 16:53 م بتوقيت القدس
أطلت جائحة كورونا على العالم بوقتِ مفاجئ، لتتيح لنا معاينة حال الدول، حكّاماً ومحكومين، في تعاملهم مع الأزمات. ما يمّيز هذه الأزمة عن باقي أزمات العالم ثلاثة مزايا كما لخصها الصديق البروفيسور الألماني وولفغانغ ميركل، بقوله أنها أزمة يمر بها كل العالم بكل شعوبه وبلدانه، كما أن هذه الجائحة تمثّل تهديد مباشر ل حياة الإنسان، والأمر الأخير أن حدوثها لم يكن متوقعاً بشكلٍ كبير.
يكثر النقاش بين الباحثين والمفكرين حول تأثير هذه الجائحة على العالم وهل سيتغير هذا العالم بعدها، وبأي اتجاه. عدد منهم يتنبؤون أن العالم بعد هذه الجائحة سيتغير والنظام العالمي سيتبدل وسُتقلب الدنيا رأساً على عقب. بنظري، هذه النظرة سابقة لأوانها وذلك لأننا ما زالنا في خضم هذه الأزمة ولا نعلم إلى أين مدى ستصل، كما أنها تُضعف دول العالم جميعها (وإن كان ليس بالضرورة بالتساوي). كُل ذلك لا ينفي أن واقع الأزمة وما وصلنا إليه صعب جداً وأضعَف اقتصادات العالم وأظهر ضعف عدد من الدول وأنظمتها الصحية وقدراتها الاقتصادية ومنها الولايات المتحدة، ولكن لا يمكن الجزم أن النظام العالمي سيتغير والرأسمالية ستنهار والولايات المتحدة ستتوقف على أن تكون دولة عظمى (مع ما ذكرت من تراجع دورها، كما أن تزامن ظروف أخرى يمكن أن يُساهم بذلك منها قرارات ساكن البيت الأبيض نفسه). وبنفس الوقت وبخصوص النظام الرأسمالي فلا يمكن التأكيد على أننا على أعتاب الحديث عن نظام جديد، خصوصاً مع عدم صعود بدائل واضحة كاملة الأركان، فلا يمكن الجزم بأن الغد القريب سيتغير. كل ما ذكرته لا يتعارض مع أن الواقع العالمي مُتبدل وأحداث عظام (وكورونا ممكن أن يكون واحداً منها، وممكن إذا ما طوّقت الأمور قريباً أن يكون حدثاً مهماً ولكن ليس مغيّراً في تاريخ الشعوب وكل هذا مرتبط بتطورات الأمور كما ذكرت) تساهم في تبدلات وتغيرات ولكن ذلك لربما يحتاج بعض الوقت وتخلق قيادي وتحول استراتيجي لم يحدث بعد (وإن كان سيُحدث في مرحلة ما، كما يُظهر التاريخ وسنن الحياة).
تُظهر هذه الأزمة ما أُسميه "الارتباط المبتور" أو "الارتباط المشروط" او "ارتباط الرخاء"، وأقصد هنا أن العالم مُرتبط ببعضه وفق واقع العولمة الذي نعيشه، وتغيير في مدينة في الصين يمكن أن يهوي بدولة عظمى واقتصادها. ولكن هذا الارتباط، ما ينفك لأن يصبح قطيعة بين الدول في وقت الشدة وفي أنانية واضحة يُمكن أن يُفسرها سلّم ماسلو لحاجات الإنسان التي يقاتل من أجلها ليُحصلها لذاته، وهذا هو الحال على صعيد المجموعة. فالدول تقاتل من أجل صحة وسلامة شعوبها، ضاربة عرض الحائط المعايير والقيم ووضع الاخرين، ليصبح الارتباط (أو العولمة) ارتباطاً مبتوراً، مشروطاً وفي وقت الرخاء.
وسؤال مصير العولمة، هو ذاته سؤال مصير النظام العالمي الجديد والرأسمالية، لا يمكن الجزم بتغيّره، وإن كانت تمظهرات الأزمة الأولية تشي بتراجعه او دعنا نقول إعادة تدوير للمصطلح. فتصبح العولمة مقيّدة وارتباط الشعوب والدول مشوب بالحذر والخوف مع الحاجة لوجوده في ظل القصور الذاتي لدى الدول في الاكتفاء الذاتي واستمرار حاجتها لبعضها.
وهذا يقودنا إلى مفهوم الدولة والحاجة لأن تكون دولنا مكتفية ذاتية، لأن الارتباط في الاخر سيجعلك رهينة لأولوياته، وإن كان ذلك الأمر، الارتهان للآخرين، انعكس لسنوات بالقرار السياسي فهو اليوم مرتبط بحياة الناس أو موتهم.
هذا لا يعني التقوقع الذاتي وانفكاك الدول عن التعاون والاقتصادات عن تبادل المنتجات، والبلدان عن تبادل الخبرات بل الأزمة تُشير إلى الحاجة لاستمرار ذلك، ولكن على قاعدة أولاً التطوير الذاتي والاستعداد للازمات ومن ثم الإنطلاق للعالمية.
كل حديثي هذا ما كان يجب أن يكون لو كان هناك مسؤولية دولية متجاوزة للانتماء القطري وتعاون دولي يُساعد كل البشر لكونهم كذلك.. وهذا ما يجب أن تفهمه الدول من هذه الجائحة، وتتحمل مسؤوليته وتطور نفسها وفقه، ولكن يبدو أن سلّم ماسلو يعمل هنا مجدداً فالنجاة والخلاص الذاتي ومحفزاته يغلب على التضحية والخلاص الجماعي.
بالرجوع لسؤال النظام العالمي الجديد والتبدلات القادمة، هذه الأزمة يجب أن تكون مرتكز لدول العالم وخصوصاً في عالمنا العربي والاسلامي لاستخلاص العبر في الحاجة لبناء الدول بشكلٍ سليم وبنّاء بغض النظر عن أي تبدل وتحوّل في محاور القوة العالمية والتي لا شك أنها في هذه المرحلة لن تكون لصالحنا.. أقول في هذه المرحلة، فالمستقبل يتعلق بمن يعمل بجد أكبر على صناعته ويستعد له.