الجمعة 23 اكتوبر 2020 08:59 م بتوقيت القدس
بعد عشرة أيام وبالتحديد يوم 2/11 يكون شعبنا مع ذكرى أليمة كانت سببًا في جرح ما زال ينزف ونكبة ما تزال حلقاتها وفصولها مستمرة، إنها ذكرى وعد بلفور الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور يوم 12/11/1917 والذي كان على شكل رسالة وجهها إلى اللورد اليهودي روتشيلد وإلى الفريق الصهيوني البريطاني بزعامة حاييم وايزمن قائلًا: “إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”. يقول الدكتور الكيالي في وصف هذه الوعود وهذه الوثيقة: “ويعتبر وعد بلفور هذا من أغرب الوثائق الدولية في التاريخ إذ منحت بموجبه دولة استعمارية وهي بريطانيا، أرضًا لا تملكها هي فلسطين إلى جماعة لا تستحقها هي الحركة الصهيونية على حساب من يملكها ويستحقها وهو الشعب العربي الفلسطيني، مما أدى إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحو لا سابق له في التاريخ”. إنها الكذبة الكبيرة أن فلسطين يومها كانت أرض بلا شعب فأعطيت لشعب بلا أرض، ليقال حقًا وصدقًا أنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
تمر ذكرى وعد بلفور مع سيل من الوعود ما تزال تصدر كوعد ترامب واستمرار الالتزام بتفوق اسرائيل عسكريًا على كل من حولها من العرب والمسلمين، بل ووعده في حملته الانتخابية في العام 2016 بنقل سفارة أمريكا من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة، وهذا الوعد قد نفذه ترامب يوم 14/5/2018 قبل يوم واحد فقط من ذكرى النكبة الفلسطينية 15/5/1948. واللافت أن ذكرى وعد بلفور القريب ستكون قبل يوم واحد من الانتخابات الأمريكية في 3/11/2020 والتي أطلق خلال حملتها ترامب وعودًا غير مسبوقة لصالح إسرائيل تلبية لرغبات ناخبيه من الانجيليين الأصوليين الداعمين لإسرائيل من منطلق ديني، لأن في ضمان بقاء إسرائيل ضمان لقرب نزول المسيح المخلّص الذي ينتظره هؤلاء.
إنها إذًا مائة سنة وازدادوا ثلاثًا “103سنوات” بين وعد بلفور ووعود ترامب المتجددة. وخلال هذا القرن من الزمان ويزيد فإن قضية شعبنا ما زالت قضية حيّة وما زال عزم أبنائها ماضيًا نحو إعادة استرداد حقه مهما طال الزمان وبعدت الأيام. إن عزم شعبنا سيفشل نظرية المشروع الصهيوني صاحب مقولة “الآباء يموتون والأبناء ينسون”.
نعم لقد مات الآباء لكن الأبناء لم ولن ينسوا، وإن الصراع على هذه الأرض المباركة ببعده العقائدي لن يطويه ولن يحله مشاريع عرجاء مشوهة، مرة باسم الوطنية ومرة باسم القومية وهذه وتلك، فإنها مشاريع هجينة مطعّمة بولاءات شرقية مرة وغربية مرة أخرى، روسية مرة وأمريكية في مرات كثيرة.
وإن الصراع على هذه الأرض لتعبّر عنه تلك القصة الرمزية فـ “يحكى أن رجلًا كانت له قطعة من الأرض خصبة وواسعة كان قد ورثها عن أبيه الذي ورثها عن أجداده، وكانت هي مصدر رزقه ورزق عياله. كان الجد قد خبأ في كهف يقع في أطراف قطعة الأرض جرّة كبيرة فيها ذهب كثير هو نتاج عمله وبذله وتفانيه في العمل في الأرض وزراعتها والخير الوفير الذي كانت تنتجه.
ذات يوم وإذا بأفعى تتسلل إلى داخل الكهف وتستوطن فيه، ولضخامتها وشراستها وعدوانيتها فما عاد صاحب الأرض يستطيع الدخول إلى الأرض لفلاحتها ولا الدخول إلى الكهف لأخذ بعض الليرات الذهبية لينتفع بها كلّما اقتضت الحاجة لذلك.
لم يُجدِ طلب صاحب الذهب والأرض نفعًا وهو يتوسل للأفعى ويتودد لها للخروج من أرضه أرض الآباء والأجداد ولتذهب هي حيث تشاء فالأرض كثيرة غير أرضه، حتى كان اليوم الذي عرضت فيه الأفعى على صاحب الأرض والمال أن تلقي إليه كل أسبوع ليرة ذهبية على باب الغار على أن يتركها وشأنها تسكن في هذه الأرض التي اختارتها وفضّلتها على غيرها. بعد أخذ وردّ وافق صاحب الأرض على العرض مكرهًا مرغمًا.
دارت الأيام والأفعى تحمل بأنيابها مرة في الأسبوع ليرة ذهبية تلقى بها على باب الغار فيأخذها صاحب الأرض وينفق فيها على نفسه وأطفاله الصغار، خاصة أنه ما عاد ينتفع بفلاحة الأرض خوفًا من شرّ تلك الأفعى التي احتلت واغتصبت أرضه.
بعد سنين وقد كبر الأطفال وصاروا شبابًا أقوياء وكان أكبرهم اسمه “شلبي”، حدثهم أبوهم عن الكنز الذي في الكهف والذي ورثه عن أبيه وعن الأفعى التي دخلت الكهف واستوطنت فيه وعن الاتفاق الذي أرغم عليه بينه وبين الأفعى لمّا كان هو ضعيفًا وكانوا هم صغارًا.
ذات يوم مرض الأب مرضًا شديدًا حتى أنه لم يعد يستطيع الذهاب إلى الأرض والوصول إلى مدخل الكهف لأخذ الليرة الذهبية كل أسبوع، فأمر ابنه البكر شلبي أن يسدّ مكانه ويقوم بالمهمة بدلًا منه. وفعلًا أصبح الابن شلبي يذهب كل أسبوع مرة واحدة إلى الأرض حتى يصل إلى باب الكهف والأفعى ممددة على بابه فيأخذ الليرة الذهبية التي ألقتها بعيدًا من باب الغار ثم يرجع إلى البيت، حتى كان اليوم الذي ما عاد فيه الابن الشاب شلبي وهو الممتلئ حماسة وهمّة أن يحتمل رؤية الأفعى مددة على أرض أبيه وأجداده وهي تهز ذنبها غير مكترثة به ولا بأبيه وإخوانه، ويزداد غضب شلبي وحنقه كلّما تذكر ذلك الاتفاق الظالم الذي بموجبه تتكرم الأفعى مرة في الأسبوع بإعطائهم ليرة ذهبية من مال أبيهم وجدّهم، وأن هذه الليرة الذهبية ما عادت تكفي فاشتد فقرهم وبدأوا يستدينون من الناس للإنفاق على أنفسهم، فقال شلبي للأفعى عارضًا عليها أن تعطيه كل الذهب مرة واحدة لأنه ذهب أبيه وجده، وأن ترحل عن الكهف وكل الأرض، وأن هذا الاتفاق وقع لمّا كان هو وإخوته صغارًا وأنهم اليوم كبروا ويريدون حق وذهب أبيهم وأرضه كاملًا غير منقوص. إلا أن الأفعى لم توافق على طلبه بل راحت تهز ذنبها صلفًا وبطرًا واستخفافًا، فما كان منه إلا أن هيأ نفسه للمرة القادمة وأخذ معه فأسًا، ولمّا وصل إلى مدخل الكهف أعاد عليها طلبه فما كان منها إلا مزيدًا من هز الذنب في إشارة إلى الرفض والتحدي، فما كان منه إلا أن بادرها بضربة فأس لم يفلح إلا بإصابة ذنبها، فقطع الذنب بينما الأفعى وفي التفاتة سريعة منها انقضت عليه لتغرس أنيابها في أسفل ساقه وقد أفرغت فيه كل سمها. أما هي فتسللت إلى الغار جريحة بلا ذنب، وأما شلبي فراح يصيح ويولول وما لبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة ومات.
دارت الأيام وتحت طائلة الحاجة وجور الزمان، وبعد أن استعاد الأب عافيته وإن كانت الأيام وطولها والأحزان على موت ابنه البكر شلبي وظلم الأفعى واغتصابها حقه قد حفرت في وجهه كل بصمات ومعاني الحزن والأسى، إلا أنه تحامل على نفسه وراح يحثّ الخطى نحو الكهف في أرضه التي استوطنتها الأفعى اللعينة التي قتلت ابنه، وراح يكلّم الأفعى التي من يومها ما عادت تلقي ليرة ذهبية من جرّة الذهب داخل الكهف لا كل أسبوع ولا كل شهر.
عرض عليها أن تعود إلى الذي اتفقا عليه وأن تعود العلاقة بينهما إلى سابق عهدها، ليس قناعة منه ولكنها الظروف ما تزال تعمل بغير صالحه، إلا أن الأفعى تنهدت وحاولت بالغريزة أن تهز ذنبها فما اهتز لأنه كان قد قطع، فقالت له: “أنا ما بنسى ذنبي وأنت ما بتنسى شلبي”.
أرادت الأفعى بقولها هذا أن تقول لأبي شلبي أنه قد يعود في المستقبل لمحاولة قتلها وتهشيم رأسها لأنه لن ينسى أنها التي لدغت وقتلت ابنه شلبي، وأنها هي كذلك ما عادت لتطمئن إليه ولا إلى أولاده الذين قطعوا يومًا ذنبها، ولعلها في كل فرصة ستحاول الانتقام من كل من سيقترب منها”.
إن مثل ذلك الفلاح وأرضه وثروته وموت ابنه مع الأفعى كمثل شعبنا الفلسطيني مع المشروع الصهيوني الذي استغل حالة الضعف والوهن التي أصابت الأمة الإسلامية، وما صاحب ذلك من إعلان وعد بلفور عام 1917 وسبقه اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ثم بعد ذلك إعلان إلغاء الخلافة العثمانية، فبدأ المشروع الصهيوني يتسلل إلى الأرض والوطن الفلسطيني، إلى تلك اللؤلؤة الثمينة والماسّة النادرة والجوهرة النفيسة التي كانت تزيّن العقد الإسلامي كله، وفي لحظة من لحظات ذلك الضعف مطعمًا بالخيانة والتآمر ممن كان يتوجب عليهم حماية تلك الجوهرة في العام 1948 والعام 1967 وإذا بالمشروع الصهيوني يفرض واقعًا جديدًا لم تجد نفعًا لتغييره، لا المحاولات العسكرية كحرب 1973 “قطع الذنب”، ولا محاولات الاستجداء والتوسل عبر مشاريع سلام مشبوهة كان يفرضها القوي على الضعيف مثل أوسلو وغيرها، بل ها هي مشاريع التطبيع الهزيلة والمفضوحة التي يتبجح أصحابها أنها من أجل صالح الشعب الفلسطيني واسترداد حقوقه ووقف الاستيطان وصفقة القرن كما صرّح بذلك صبيان أبو ظبي.
نعم إن قادة المشروع الصهيوني ليس أنهم يرفضون التنازل عمّا احتلوه من أرض فلسطين، وإنما هم الذين يطالبون بأملاكهم في خيبر وقريظة ولسان حالهم يقولون أننا لن ننسى ما حلّ بنا هناك:
يا شعبنا فارجع إلى الله العظيم بصدق نية
يمددك بالنصر المبين كما أمدّ به نبيّه
ارجع فلن نلقى الخصوم بغير أفكار قوية
كمبادئ الإسلام تدفع للثبات بعبقرية
وبغير ذلك فلا تحل على المدى قضية
إن الذين يلهثون من خلف سراب ووهم مشاريع التطبيع مثلهم كمثل الذين لهثوا يومًا خلف مشاريع السلام المشبوهة والهزيلة، مرة يصدّقون وعود كلينتون ومرة وعود ترامب وإذا بهم كمن يلهثون خلف سراب يحسبه الظمآن ماء ناسين أن إسحاق شامير يومها قال: “سأفاوضهم مائة عام ولن أعطيهم سنتيمترًا واحدًا”، ومتجاهلين أن نتنياهو يقول لهم: “نحن أجّلنا تنفيذ صفقة القرن بضم أراضٍ من الضفة إلى السيادة الإسرائيلية، ولم نلغها ولم نتراجع عنها”.
وما أجمل ما قاله الشاعر مخاطبًا شعبنا الذي تاجر وما يزال باسمه سماسرة ومتآمرون:
آه يا شعب المآسي إنك المقتول غيلة
أنت ينبوع التحدي أنت بركان البطولة
أنت منصور بدين عزّ من يقفو سبيله
وبهذا الوعد حقًا أرسل الله رسوله
لقد وعد بلفور وعده فنفّذه، وإن الله سبحانه قد وعد وعده وأنه سينفذه {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} آية 4-6 سورة الروم.
وإن ترامب قد وعد بأن تكون القدس عاصمة إسرائيل الأبدية، وإن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد بأن تكون القدس عاصمة دولة الخلافة الإسلامية لمّا قال: يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه إلى رأسك”.
إنها الأيام سترينا أن الله أصدق بالوعد من بلفور، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أصدق بالوعد من ترامب، وسيظلون هم يقولون ذنبي، وسنظل نحن نقول شلبي، شعبي، أرضي، وطني حتى يتحقق وعد الآخرة {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا} آية 7 سورة الإسراء.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون