الجمعة 15 يناير 2021 12:43 م بتوقيت القدس
طريق الهدى وطريق الهوى
تقول الخاطرة: “لأن تكون تابعًا في طريق الهدى خير ألف مرة من أن تكون قائدًا في طريق الهوى”.
إنهما طريقان إذن، طريق للهدى وطريق للهوى، طريق للحق وطريق للباطل. إنه طريق الهدى الذي أمرنا الله أن نسلكه والحرص على السير عليه دون سواه، كما قال سبحانه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آية 6 سورة الفاتحة {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} آية 153 سورة الأنعام، في مقابل طريق الهوى الذي أمرنا الله سبحانه أن نخالفه ولا نسير فيه لمّا قال {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 26 سورة ص.
ولأن طريق الهدى يوصل إلى الجنة، ولأن طريق الهوى يوصل إلى النار لذلك كان لا بد من الحرص على أن نسلك طريق الهدى وأن نخالف طريق الهوى، لكن مع العلم والمعرفة سلفًا أن طريق الهدى الموصل إلى الجنة محفوف بالمكاره والآلام والبلاء، بينما طريق الهوى الموصل إلى النار فإنه محفوف بالشهوات، قال النبي ﷺ: “حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات”.
ولأن من عادة الناس ومما يظنونه من أسباب الوجاهة أن يسيروا في مقدمة الموكب أو أن يجلسوا في صدور المجالس لأنهم يجدون أنفسهم حينما يتقدمون على غيرهم، حتى وإن كان الموكب موكبًا للباطل، وحتى لو كان المجلس الذي يتصدّرونه مجلسًا للهوى بينما يرون العيب كل العيب والانتقاص كل الانتقاص في أن يسيروا في آخر الموكب أو أن يجلسوا على أطراف المجلس.
وهنا تأتي الخاطرة لتقول لي ولك أن العبرة ليست في أن تكون في مقدمة الموكب أو في آخره أو أن تجلس في صدارة المجلس أو على أطرافه، ولكن العبرة والمهم أن يكون الموكب موكب الهدى وليس الهوى، وأن يكون المجلس مجلس الحق وليس الباطل.
فاحرص على أن تظلّ دائمًا في طريق الهدى فلا تزيغ ولا تضل، ولا يهمك بعد ذلك أكنت رأسًا فيه أم كنت تابعًا، وإياك إياك أن تنحرف بوصلتك نحو الهوى والباطل، فلا عزاء لك عندها سواء كنت رأسًا أو كنت تابعًا. فلئن تظل وتكون تابعًا في موكب الهدى والحق خير ألف مرة بل مليون مرة من أن تكون رأسًا وقائدًا في موكب الباطل والهوى، لأنك عند ذلك تكون قد فزت بالرئاسة لكنك خسرت دينك وآخرتك.
وما أعظم تلك القصة التي تتحدث عن ذاك الضيف الذي جاء إلى القاهرة وذهب لزيارة مقر جماعة الإخوان المسلمين يقول: ولقد رأيت على مدخل دار الإخوان وعند الباب يجلس رجل تبدو عليه سيما الصلاح والهيبة والوقار فقلت في نفسي لا يعقل أن يكون هذا هو البوّاب الذي عادة ما يكون إنسانًا من عامة الناس، فلما دخلت وسلمت سألت عن ذلك الرجل فقيل لي إنه “صالح عشماوي” ذلك الرجل صاحب الأيادي البيضاء على الجماعة، ولكنه في العام 1953 فقد وقعت الفتنة في الصف كان له فيها دور، وبعد العام 1970 وبعد خروج عشرات آلاف الإخوان المعتقلين من السجن بعد موت عبد الناصر فقد جاء صالح عشماوي يعتذر من فضيلة الدكتور حسن الهضيبي عمّا كان منه وقبل منه اعتذاره ولكن الرجل أراد أن يعاقب نفسه، ولكن ليس أقل من أن يكون بوابًا على باب دار الإخوان المسلمين لسان حاله يتمثل الخاطرة التي تقول لئن تكون تابعًا في الحق وبوابًا عند دار أهل الهدى خير ألف مرة من أن تكون رأسًا في الباطل، وقد كُتبت تلك الحادثة تحت عنوان “توبة الصالح فريدة” أي توبة صالح عشماوي عمّا ارتكبه بحق جماعته ومعاقبته لنفسه فإنها تعتبر توبة فريدة وقلّ مثيلها في معرفة فضل أن تكون مع رهط الخير وطريق الهدى على أن تكون في رهط الباطل وطريق الهوى.
يسهرون لنصرة الباطل وتنام عن نصرة الحق؟!
تقول الخاطرة: “كيف يسهرون في باطلهم وينفقون في سبيل معصيتهم، وأنت لا تسهر في سبيل دعوتك ولا تدفع عمرك ثمنًا للجنة”.
لأن كل إنسان منا يختار منهج حياته وهويته الفكرية والثقافية، ويجعل ذلك في إطار قد يكون حزبيًا في جماعة أو تيار أيًا كان. وبغض النظر عن الأسماء واللافتات وما أكثرها، فإن مجموع أطر وأحزاب وجماعات وحركات وأفراد قد يلتقون على حرب الإسلام والعداء له عبر نشر الرذيلة والفساد والفكر الضّال، بل حتى محاربة جوهر الدين، إن مجموع هؤلاء يسمى تيار الباطل في مقابل مجموع أطر وجماعات وحركات وأفراد قد يلتقون على نصرة الإسلام والدعوة للفضيلة والولاء للدين، إن مجموع هؤلاء يسمى تيار الحق.
فيكون الاستغراب والاستهجان أن يبذل أهل الباطل من أجل باطلهم أموالهم وأوقاتهم، بل قد يبذلون أنفسهم رخيصة من أجل الباطل بينما يبخل أهل الحق عن نصرة حقهم بأموالهم وأوقاتهم رغم أنها هي التجارة الرابحة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} آية 10-11 سورة الصف. إنه فعلًا أمر يدعو للعجب أن يكون أهل الباطل أكثر عطاء وبذلًا لباطلهم من أهل الحق لحقهم، وهذا مما كان يستعيذ منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد الفاجر”. بل إن القعود عن نصرة الإسلام هو العيب بعينه كما قال الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله وهو أحد الصحابة العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وقد قال: “إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره”.
إنه العيب والعار ونقص الإيمان وسوء الفهم لطبيعة الانتماء للإسلام أن يبذل أعداء الإسلام جهدهم لحربه والسعي للقضاء عليه بكل إمكاناتهم ويمكرون مكر الليل والنهار، بينما المسلم يبخل على دينه ويتردد في نصرته، ومع ذلك يدّعي حب الإسلام والانتماء له. إنه الحب المزعوم، بل إنها الترهات كما قال أحد الصالحين في فهم العطاء للإسلام “هو بذل الروح، وإلا فإنها الترهات”، وكما قال الشاعر محمد إقبال في وصف المسلم الصادق:
حديد: إذا ما طغى باطل جريء لدى المعارك: المؤمن.
أو كما قال وليد الأعظمي شاعر الدعوة العراقي:
إن نفسًا ترتضي الإسلام دينًا
ثم ترتضي بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
إن معاني صدق الانتماء أن يجعل ابن الإسلام ومن يريد أن يكون من أهل الحق أن يجعل نفسه كلها وقف لله تعالى، وكما قال إبراهيم عليه السلام {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} آية 162-163 سورة الأنعام. فالمسلم الذي يجعل نفسه وقفًا لدعوته ودينه فهذا يعني أن كل إمكاناته من وقت ومال وجهد وغيرها فإنها مسخرة لخدمة الإسلام ونصرته، بل إنه كما قال أحد الدعاة: “إنه يتوجب علينا أن نخبر الفتاة التي نخطبها لتكون لأحدنا زوجة بأن مكثنا معها سيكون قليلًا لأن أعباء الدعوة وانشغالاتها ستمنعنا من إطالة الجلوس في البيوت”. إنه الفهم الصادق للانتماء الحقيقي للإسلام في أجمل معانيه وأجمل دلالته، وإلا فإذا كان أهل الباطل وكما قالت الخاطرة” يسهرون في باطلهم وينفقون في سبيل معصيتهم، وأنت لا تسهر في سبيل جنتك ولا تدفع عمرك ثمنًا لها” فإنه العيب والعار في فهم طلحة بن عبيد الله، وإنها الترهات في فهم صاحب فضل آخر، وإنه الإثم والحرام في فهم كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وسيرة أصحابه والتابعين.
ثبوت وثبات
تقول الخاطرة وهي مقولة لابن القيم رحمه الله: “على قدر ثبوت العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار -الدنيا- يكون ثبات قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم”.
نعم إن استقامة المسلم على صراط الله المستقيم وعلى طريق الهدى وليس طريق الهوى، وإن ثباته في الدنيا هو علامة ومقدمة ثباته بإذن الله على الصراط المنصوب على جهنم {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} آية 127 سورة إبراهيم.
فمن أراد الثبات على صراط جهنم في الآخرة فليثبت على صراط الدين والهدى في الدنيا، وإلا فكيف لمن يتراقص ويتمايل مع كل الأفكار والمبادئ والمواقف والسلوكيات، فكيف بمن يتلاعب به هواه كما تتلاعب الريح بالريشة، فكيف له أن يثبت على صراط الله المضروب على متن جهنم. فمن أراد النجاة والسلامة وعبور صراط جهنم فليثبت على صراط الهدى والإسلام في الدنيا، ولا تتلاعب به الأفكار والمناهج الزائفة ببريقها اللامع {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} آية 71-72 سورة مريم.
كم هم المسلمون اليوم الذين يتهاونون لا بل إنهم عمدًا ينحرفون عن صراط الإسلام وطريقه، لا بل إنهم ينحازون إلى معسكر أعدائه ويكيدون للإسلام ولمن يعملون له، فكيف لهم أن يثبتوا على صراط جهنم. إن استهتارهم بهويتهم وإن إدارة الظهر لدينهم وأحكامه وصلت إلى حد أن مالك بن دينار يقول لهؤلاء: “قد رضيت من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله”. نعم كثيرون هم الذين يشغلهم ويهمهم شراء حذاء من أفخم الشركات كما يتعهدونه دائمًا بكل وسيلة للحفاظ عليه فلا يتلف سريعًا، بينما دينهم وشخصيتهم وهويتهم الإيمانية لا يتعهدونها للحفاظ عليها من أسباب التلف وتغيّر الأحوال، بل والمسخ والتشويه.
نعم لقد اختلت الموازين في كل شيء، ليس فقط أنها وصلت إلى حد الاستهتار في الأخذ بأسباب الثبات على الدين وصراط الله المستقيم لضمان الثبات على صراط جهنم، بل إنها وصلت إلى حد أن يكون حرص المرء على نعله أكثر من حرصه على دينه، بل وصلت إلى حد كما قال الأخ الداعية خالد أبو شادي المسجون في سجون السيسي: “سرق اللصوص بيته فبكى شهر وسرق الشيطان قلبه فما انتبه”. لقد أصبح البيت والمال ومتاع الدنيا أثمن وأغلى من القلب والإيمان. نبكي لسرقة المال وضياعه ولا نبكي لسرقة قلوبنا وإيماننا. إن هذا لا يفعله عاقل ولا صاحب إيمان صادق، فلا تبحث عن أفضل حذاء لقدمك ولكن ابحث كيف تثبت قدمك على الصراط يوم القيامة.
الترقية والارتقاء
تقول الخاطرة: “لو وعده مديره بترقية في المنصب فإنه يواصل عمله بالليل والنهار، فكيف بوعد من لا يخلف الميعاد بجنة عرضها السماوات والأرض؟”.
نعم إن من الناس من إذا اشترط عليه مديره أو وعده في الترقية في منصبه في الشركة أو موقع العمل أيًا كان فإن عليه أن يقوم بكذا وكذا، فإنه يسمع ويطيع ويبذل قصارى جهده ويتفانى من أجل تلك الترقية، فإذا كان يفعل ما يطلب رب العمل لضمان نيل الترقية فلماذا لا يفعل ما يطلبه رب الأرباب لضمان نيل الارتقاء وقد قال ﷺ: “يقال لقارئ القرآن اقرأ ورتل وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها”. إنه القرآن إذن سبيلك ليس للترقية وإنما للارتقاء.
وإنه حديث النبي ﷺ الآخر الذي يبشرك بأعلى المناصب والمراتب ترتقي إليها يوم القيامة حيث يكون مجلسك ليس إلا تحت ظل عرش الرحمن سبحانه وتعالى. وإذا كنت للوصول إلى ترقية المنصب تفعل ما يطلبه منك مديرك وصاحب العمل، فما عليك للوصول إلى الارتقاء للوصول إلى تحت عرش الرحمن إلا أن تفعل واحدة من تلك الأعمال التي يجعلها رب الأرباب سبحانه وتعالى حيث يقول رسول الله ﷺ: “سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ اللهِ تعالى، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجدِ، ورجُلانِ تحابَّا في اللهِ اجتمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتَّى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه ورجلٌ ذكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه”.
فلنجتهد ولنبذل في خدمة ديننا ونصرته، ولنمض في طريق الهدى ومخالفة وطريق الهوى. ولنجتهد بالثبوت على صراط الهدى فإنه السبيل للثبات على صراط جهنم، وهو الطريق الموصل بإذن الله تعالى إلى الارتقاء إلى تحت ظل عرش الله رب العالمين.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} آية 8 سورة آل عمران.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون