الجمعة 12 مارس 2021 08:52 م بتوقيت القدس
في كتابها «كشف الحساب الإمبراطوري»، تكشف المؤرخة الأمريكية والباحثة بجامعة هارفارد، كارولين إلكينز، جانبًا مظلمًا من جوانب «الحضارة البريطانية»، تحديدًا في كينيا، إذ على الرغم من ادعاء الإمبراطورية البريطانية أنها «تأخذ بيدِ» مستعمراتها للتمدن والتقدم وعالم التكنولوجيا الحديثة، فإنها قد جلبت في اليدِ الأخرى «معسكرات التأهيل»، والتي أصبحت فيما بعد النواة التي استخدمتها دولة الاستعمار لإجراء أقسى التجارب على البشر، تلك التي شملت الأفارقة وكأنهم جنس أدنى يسعون لسبر أغوار عقله، واكتشاف طبيعته المغايرة واختلافه عن «العرقِ الأبيض».
كان من بين تلك التجارب ما أسماه علماء النفس حينذاك «العقل الأفريقي»، وهي محاولات لكشف أغوار العقلية الأفريقية من أجل التلاعب بها والسيطرة عليها. بمرور الوقت، تحولت تلك المعسكرات إلى مقرات لتعذيب الكينيين، خاصةً المتمردين منهم، هؤلاء الذين انضموا إلى صفوف ثورة «ماو ماو»، وهي جبهة شعبية تشكلت لمقاومة الاحتلال البريطاني. في السطور التالية، نأخذك عزيزي القارئ في رحلة إلى واحد من أفظع معسكرات التعذيب في التاريخ الحديث، حيث ارتكب الاستعمار البريطاني جرائم التعذيب ضد الكينيين.
من هنا بدأت «معسكرات التأهيل»
في أواخر القرن التاسع عشر، دخل البريطانيون شرق أفريقيا، واستعمروا كينيا التي كانت بالنسبة إلى البريطانيين، واحدة من المناطق المجهولة التي يمكن الاستيلاء عليها وضمها إلى مستعمرات الإمبراطورية؛ إذ جرى التعامل معها وكأنها أرض غير مأهولة. لسوء حظهم، واجه رجال الاحتلال البريطاني الأفارقة المحليين، خاصةً أفراد قبيلة «كيكويو» الذين استقروا في الأراضي الكينية منذ زمنٍ بعيد.
استاء السكان الأصليون من البريطانيين، بعدما طردوهم من أراضيهم وأجبروا على الخدمة فيها عمالًا. بحلول الخمسينيات من القرن الفائت كانت أوضاع الأهالي لا تطاق، إلى الحد الذي نشبت معه حركة معارضة بين أفراد كيكويو، عرفت باسم «ماو ماو».
لم تكن حركة المعارضة الكينية سهلة هي الأخرى، بل عرفوا في سجلات البريطانيين بـ«المتوحشين» سكان الغابات، إذ استهدف أفراد حركة «ماو ماو» المستوطنين البيض بوتيرة متزايدة، مستخدمين في ذلك مناجلهم، لذا خشي البريطانيون على أرواحهم من أن يذبحوا ليلًا في أسرَّتهم، واستدعوا من أجل ذلك قوات خاصة من إنجلترا، وأعلنوا حالة الطوارئ في البلاد.
خشية أن يخرج الوضع عن السيطرة، أقامت بريطانيا معسكرات «إعادة تأهيل» للسكان الأصليين بدعوى نشر التعلم والتمدن وإكسابهم المهارات الخاصة بالحرف؛ إلا أنها في حقيقة الأمر كانت مراكز منتشرة على طول القرى للعملِ بالسخرة والتعذيب والتجويع والقتل.
تروي كارولين إلكينز في كتابها قصة بحثها عن سجلات تلك المعسكرات، في محاولةٍ منها لرسم صورة كاملة للحياة داخل تلك المعسكرات، وما تعلمه الأفارقة داخلها من نظم التحضر والتمدن. حينذاك، اكتشفت إلكينز أن أغلب الملفات الخاصة بمعسكرات الإمبراطورية البريطانية في كينيا قد جرى إتلافها.
كان الأمر مثيرًا للاهتمام، إلى الدرجة التي دفعتها لتتبع الملفات القليلة المتبقية، لتكون هي حجر الأساس لما أصبح فيما بعد كتابًا يتناول جزءًا من التاريخ السري لبريطانيا العظمى داخل واحدة من مستعمراتها.
لم تكتف إلكينز خلال بحثها بما وجدته في وثائق البريطانيين، بل طعمته بالمزيد من الشهادات الحية لأهالي «كيكويو» الذين عاصروا «معسكرات إعادة التأهيل»، مصحوبة ببعض الرسائل والروايات الأخرى المنقولة عن شهود عيان، وهو الأمر الذي مكنها في نهاية الأمر من اكتشاف كم من الفظائع ارتكبتها بريطانيا العظمى في كينيا وقت الاحتلال.
إجراء التجارب على عقول الأفارقة المتمردين
كان يجب على كل محاربي حركة ماو ماو أداء قسم الولاء للحرب والتعهد بالمقاومة الباسلة من أجل حماية الأراضى الكينية الأصلية من السرقات الأوروبية بأي ثمن. وقد كانوا من المحاربين الشجعان الذين لا يحنثون بعهدهم. كانت تلك الطبيعة الثائرة للمتمردين الكينيين هي التي خلقت عنهم الأساطير داخل بريطانيا العظمى، بوصفهم مجموعة من القتلة المتوحشين الذين يستهدفون المستوطنين البريطانيين. كما كانت هي نفسها السبب في أن تتناول العديد من الدراسات الأكاديمية شرح عقلية حركة ماو ماو.
في دراسة مقارنة تاريخية، تناول الباحث نيكولاس كارسون نظريات «العقل الأفريقي» في الحقبة الاستعمارية البريطانية، وكيف تقاطعت مع نمو فرع «علم النفس العرقي»، الذي لم يكن حينذاك مجرد شكل من أشكال البحث العلمي والممارسة الطبية، بل كان وسيلة لتطبيق الأيديولوجية الاستعمارية.
يشير كارسون إلى أن تطور «علم النفس العرقي» قد أتى موازيًا للتدخل الاستعماري في أفريقيا، من منتصف القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن الماضي. وقد كان هذا الفرع من الطب يشمل أيضًا دراسات الأنثروبولوجيا التاريخية والطب النفسي وعلم الاجتماع. وسعى روادهم إلى فهم العقلية الأفريقية وتحليلها، وذلك من خلال قضاء أشهر في دراسة السمات الجسدية والعقلية لسكان المنطقة الأصليين.
خلال هذه الأبحاث، جرى قياس حساسية الأجساد للضوء، واستكشاف مستوى الرؤية والسمع، وغير ذلك من الحساسية للألم، وأمور الذاكرة والمرض العقلي، ومستوى القوة العضلية.
نستطيع أن نلمس نتيجة هذه التجارب خلال أبحاث كاروثرز – مدير مستشفى ماثاري العقلي في نيروبي كينيا – التي تمثل دراسة عرقية نفسية مبكرة، استطاع خلالها تقسيم الأفارقة إلى عدد من الأجناس على أساس شكل الرأس، وملامح الوجه، وجودة الشعر.
كان البريطانيون ينظرون إلى السمات الجسدية للأفارقة بوصفها أحد المؤشرات النفسية الدالة على الفروق الجوهرية ما بين العرق الأبيض والأسود. عاقدين المقارنات ما بين الأفارقة والأوروبيين بناءً على السمات الجسدية مثل لون البشرة على سبيل المثال، وربط ذلك بالقدرات العقلية، والمهارات الخاصة باكتساب المعارف.
على سبيل المثال، ادعى كاروثرز في إحدى دراساته، أن الأفارقة يعانون من قلة استخدام «الفصوص الأمامية» للمخ، مما يعوق قدرتهم على تحصيل المعلومات، ومن خلال هذه النظريات جرى تصنيف المرض العقلي وكأنه حالة يمكن الاستدلال عليها جسديًّا عند الأفارقة، واصفين إياهم بالاندفاع وعدم النضج العاطفي، والافتقاد إلى القدرة على التحكم في المشاعر.
«اغتصبوني بزجاجة مليئة بالفلفل الحار».. الطب النفسي الإثني
عندما بدأ تمرد حركة «ماو ماو» عام 1952، وهي الانتفاضة التي قادت كينيا فيما بعد عام 1963 إلى طريق الاستقلال، كان رد الإدارة البريطانية هو قمع شرس للمتمردين والمعارضين سقط خلاله العديد من القتلى، حرب طويلة ما بين الاحتلال البريطاني وما عرف بـ«جيش الحرية الكيني».
حينذاك احتجز البريطانيون جميع أفراد قبيلة كيكويو تقريبًا، وذلك على الرغم من أن ثوار ماو ماو لا تتعدى نسبتهم 20% من هذا العدد. رغم ذلك تشير المؤرخة الأمريكية كارولين إلكينز إلى أنها أجرت حساب الأعداد داخل المعسكرات، وما تتوقعه أنها وصلت إلى حوالي 360 ألفًا، على الرغم من أن الوثائق الرسمية تشير إلى 80 ألفًا.
ولأنه كان من الصعب على الإدارة البريطانية السيطرة على السكان الأصليين وهم محتجزون في منازلهم المتناثرة، أنشأ البريطانيون قرى حصينة أشبه بالمعسكرات، تحت دعوى خضوعهم للتأهيل من أجل دمجهم مرةً أخرى في المجتمع، إلا أن ذلك كان مجرد غطاء لعمليات التعذيب والقتل والإيذاء التي تعرض لها ثوار «ماو ماو».
خلال الحقبة الاستعمارية، كان الطب النفسي الإثني (العرقي)، إحدى أذرع المستعمرين لتنفيذ مصالحهم السياسية، أو بمعنى أصح لإضفاء الشرعية على السيادة الأوروبية في أفريقيا، عن طريق استخدام الطب النفسي لتبرير الأغراض الاستعمارية.
نتيجة لذلك كان كاروثرز يعمل على كتابة التقارير الطبية الخاصة بتمرد حركة ماو ماو. كان وصف الطبيب الاستعماري للمتمردين الكينيين – على سبيل المثال – يرجع ذلك إلى معاناتهم من القصور العقلي المميز للسكان الأصليين، وليس السياسات الاستعمارية داخل الأراضي الكينية.
خلال ذلك، كان الخاضعون لمعسكرات التأهيل، ونزلاء السجون، والمرضى داخل المستشفيات العقلية، هم فئران تلك التجارب؛ إذ عدهم الاستعمار البريطاني حينذاك مجرد أدوات لإحكام سيطرته على القارة السمراء.
عندما كشفت المؤرخة الأمريكية كارولين إلكينز في كتابها جزءًا من انتهاكات بريطانيا في كينيا عام 2005، تعرضت لانتقادات هائلة داخل بريطانيا، خاصةً بعدما خرجت عن «سياسة الصمت» التي فرضت على البعض للتستر على الانتهاكات الإمبريالية. لكن بحلول عام 2008، تكشف أمام إلكينز أرشيف مخفي لنصف قرن كامل من انتهاكات بريطانيا داخل المستعمرات.
كانت القرى ومعسكرات الاعتقال تخضع لدوريات أمنية مكثفة؛ إذ صورت بريطانيا حركة ماو ماو وكأنها وجه «الإرهاب الدولي» في خمسينيات القرن الماضي، وانتشرت الشائعات والأخبار عن مدى وحشية هذا الشعب، وهو ما جذب إليها العلماء لإجراء تجاربهم على العرق الأفريقي «المتوحش» حسب تصورهم.
عندما عملت إلكينز على أبحاث كتابها الخاص بالفترة الاستعمارية البريطانية، فوجئت بأن أغلب الوثائق غائبة، بعدما أتلفها الضباط البريطانيون أثناء انسحابهم من كينيا عام 1963، أثناء عملية تطهير واسعة نجا منها عدد قليل من الوثائق الرسمية، كان من بينها ملف أزرق سيصبح هو مستهل كتابها، ويحكي عن النظام الذي اتبعه البريطانيون لتأهيل السجناء والمعتقلين عن طريق عزلهم وتعذيبهم وإجبارهم على العمل.
كان هذا الملف هو الذي شجع إلكينز على السفر إلى الأراضي الكينية لمقابلة بعض شهود العيان الذين عاصروا أحداث التمرد، وما تبعه من فرض حالة الطوارئ في المعسكرات. جمعت خلال ذلك حوال 300 شهادة، كان من بينهم سالومي ماينا، التي تعرضت للضرب والاغتصاب على يد قوات البريطانيين وبعض ممن عاونوهم من أبناء قبيلة كيكويو؛ مقابل ضمان سلامتهم.
تقول ماينا إنهم عندما فشلوا في الحصول على معلومات منها، عمدوا إلى اغتصابها باستخدام زجاجة مملوءة بالفلفل الأسود والماء. كانت تلك الحادثة مجرد جزء مما تعرض له معتقلو المعسكرات. كان تأثير سياسة «الاحتجاز الجماعي» في السكان الأصليين من أصعب ما يكون، بحسب إلكينز؛ إذ جرى احتجاز السكان بين 800 قرية مغلقة في جميع أنحاء الريف، محاطة بأسلاك شائكة وخنادق وأبراج مراقبة، وفي الداخل كان الأهالي يعانون من التجويع المتعمد والأمراض المتفشية، هذا إلى جانب القتل والاغتصاب.