كثيرون هم الذين كتبوا في فوائد الصيام ومنافعه على جسم الإنسان، وخاصة على بطنه ومعدته عبر نظام غذائي يمتد لشهر كامل ولا مجال للتفصيل في ذلك. وكثيرون هم الذين كتبوا وقالوا في فوائد الصيام ومنافعه وآثاره الروحية والإيمانية على الإنسان ومثلهم كثيرون كتبوا وتحدثوا عن فوائد الصيام وآثاره على المجتمع كله عبر تعزيز معاني الشعور بالجوع عند الجميع، ومثلها معاني التواصل الاجتماعي بين الأرحام والجيران. ومن أراد المزيد فإنه سيجد الكثير مما كتب في فلسفة الصيام ومعانيه وحكمة الله سبحانه في أن جعله شهرًا كاملًا ثلاثين يومًا هي مدرسة للروح والجسد والمجتمع.
وإذا صح لنا أن نسمي هذه الحكم الرمضانية بالفوائد والمنافع وهي كذلك إلا أننا يمكن أن نسميها أيضًا بأنها مظاهر ثورة وحالة تمرد وعصيان تتمثل في مظاهر الإرادة على مقاومة وعدم الخضوع لشهوة الطعام وشهوة الجنس، لا بل إنها غريزة الانتقام يقوم الصائم برفضها والثورة عليها وهي تناديه إذا سبّه أحد أو شتمه فيكون الرد والجواب كما قال ﷺ: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل إني صائم”.
وإن مما يعزز فهم حكم رمضان ومنافعه أنها ليست فقط ثورة وعصيان في مواجهة شهوة البطن وشهوة الجنس وحتى شهوة وسطوة الأنا في علاقة المسلم بأخيه المسلم إذا سبّه أو شتمه، وإنما هي أبعد من ذلك بكثير، فهي ثورة في مواجهة الظلم والقهر والذلّ حيث يريد غيرنا أن يفرضها علينا وأن نتقبلها، فإذا كان الصيام يدربنا ويعلمنا كيف ننتصر على شهوات أنفسنا الأمّارة بالسوء وغرائز أجسادنا فإنه يدربنا ويعلمنا كيف ننتصر على النفوس الشرّيرة لأعدائنا الذين يريدون قهرنا وإذلالنا وتفريقنا.
فمن توحّدهم معاني الصيام وأحكامه فيصومون كلهم، الغني والفقير والرجل والمرأة بنفس التوقيت، ويفطرون بنفس التوقيت، وتنطبق عليهم نفس الأحكام الشرعية، ويصطفون صفوفًا متراصة في مساجدهم لا يحنون قاماتهم إلا لله رب العالمين وغير ذلك من معاني الصيام، فكيف لمثل هؤلاء أن تنتصر عليهم النفوس الشريرة من أعدائهم وهم الغارقون في شهوات البطن والجسد وقد قحطت أرواحهم من معاني الإيمان، فإذا حصل ذلك فإن هذا ليس له إلا معنى واحد وهو أن معاني الصيام وأحكامه الحقيقية ومغازيه لم تتحقق في نفوسنا وهو ما أشار إليه الرسول ﷺ لمّا قال: “وكم من صائم لا يناله من صيامه إلا الجوع والعطش”. وهو ما قصد ورمى إليه الشاعر لما قال:
لا الصوم صوم ولا الإيمان إيمان أتت على الصوم والإيمان أزمان
المسلمون ولا تغررك جمهرة ما للحجارة لولا الجمع بنيان
ضلوا السبيل فلا الأخلاق مشرقة ولا الديانة إسلام وإيمان
قالوا التمدن والإسلام ما اتفقا إنّا لعصر وللإسلام أزمان
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عهدًا من الله تأييدًا لسنته حظّ المقصر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العرب قرآن
الصيام طاقة روحية هي وقود الثورة
ما أجملها تلك الكلمات التي كتبها المرحوم مصطفى صادق الرافعي في مقالته “فلسفة الصيام” والتي أوردها في كتابه وحي القلم لما قال: “وعجيب جدًا أن هذا الشهر الذي يدَّخر فيه الجسم من قواه المعنوية؛ فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة.
عجيب جدًا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8,33٪، فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه، فله في كل سنة زيادة 8,33٪ من قوته المعنوية الروحانية.
وسِحْرُ العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوة، وتوفرها، لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد، والأسلحة، والذخيرة”.
ولعلّ في حقيقة ما قاله المرحوم الرافعي نجده في سيرة سلفنا وأجدادنا الذين كان رمضان وكان الصيام يورث فيهم طاقة معنوية هائلة وإرادة تهدّ الجبال، فكيف لا تهدّ بشرًا غارقين في المعاصي والشهوات. وإن من يتتبع تاريخ بعض المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام فإنه سيجد أنها وقعت في رمضان، فلم يكن توقيت اختيارها عفويًا وإنما كان لأن الأمة كانت في حالة معنوية وطاقة إيمانية عظيمة ضمنت بإذن الله أن تدكّ حصون الأعداء وأن تثور على كل أولئك الذين أرادوا فرض أجنداتهم وأحكامهم الظالمة وسطوة شرّهم على أمتنا.
فها هو التاريخ يحدثنا أن معركة بدر الكبرى والتي كانت في رمضان في يوم الفرقان، حيث سجّلت أول انتصارات المسلمين على مشركي قريش. في رمضان كان فتح مكة، وفي رمضان كانت معركة فتح عمورية، وفي رمضان كانت معركة عين جالوت، وفي رمضان كان فتح الأندلس، وفي رمضان كان فتح بلغراد عاصمة الصرب، وفتح قبرص كان في رمضان، ومعركة المنصورة ضد الصليبيين بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا كانت في رمضان وغيرها من الأمثلة الكثير مما يشير إلى أن الصيام لم يكن سبب تعطيل الجهود ولا قتل الهمم وإنما كان الصيام وكان رمضان سبب تفجير مكامن الطاقة وينابيع القوة والعزيمة على تغيير الواقع السيئ والثورة في وجه من صوّروا أن جيش التتار لا يهزم، وأن الأندلس لن تفتح، وأن مكة ستظل عرين الأصنام، وأن أبا جهل سيكون المنتصر يوم بدر، فجاءت ثورة الصيام وثورة الهمم في رمضان لتجعل النتيجة عكس ذلك تمامًا.
وإن المقارنة بين طبيعة فهم سلف المسلمين لحقيقة الصيام وبين فهم المسلمين من الخلَفِ لحقيقة الصيام ستجد أن من لم يستطيعوا الانتصار على نفوسهم والثوره على شهواتهم، فإنهم لن يستطيعوا الانتصار على أعدائهم ولا الثورة ضد ظالميهم ومغتصبي أرضهم ومدنّسي مقدساتهم، وهو ما قاله الشاعر:
ها قد أتى شهر الصيام الأكرم بدر يطلّ بوجهه المتوسم
كم جئت يا شهر الهداية سابقًا والنصر يحمل عزة للمسلم
كم جئت يا شهر السماحة حاملًا بشرى تنير الدرب للمتلعثم
فالفتح يشهد للرسول محمد ولصحبه ذاك الشموخ الأكرم
وبعين جالوت تبدّى مجدهم بالقرب من بيسان أرض الأنجم
اليوم جئت وقد تشتت شملهم حتى تبدل نهجهم بمجرم
مالي أرى وجه العروبة شاحبًا والكل يحيا تحت وطأة ظالم
مالي أراهم يسجدون لكافر ويح العروبة من عذاب ظالم
هل من رجوع للكتاب وصحوة ونقول للأحفاد هل من متقدم
صوم غاندي وصوم المهازيل
خلال سعي الزعيم الهندي غاندي لتخليص بلاده من نير الاستعمار الإنجليزي فإنه قد عمد في العام 1932 إلى الشروع في نهج الصيام للتعبير عن رفضه للاحتلال البريطاني لبلاده. لقد صام غاندي صيام ثورة ومنهج استقلال وليس صيامًا شرعيًا، ومع ذلك فإن رسالته قد وصلت وقلّده أبناء شعبه الهنود. إنه الامتناع عن المنتوجات البريطانية التي كانت تغرق السوق الهندية فأغلقت، وأصاب الكساد مصانع اللباس والغذاء في بريطانيا التي كانت تعتمد على السوق الهندية وكان شعاره سألبس الخيش وهكذا فعل، ولما احتكر البريطانيون الملح فقال سنأكل الطعام بلا ملح، وصار خبز الهنود بلا ملح لكنهم ذهبوا إلى البحر واستخرجوا الملح بأنفسهم، وأعلن العصيان المدني فسار الشعب خلفه حتى تحقق له ما أراد. هذه المعاني حركت مشاعر الشاعر لما قال:
لقد صام هندي فجوّع أمة وما ضرّ علجًا صوم مليون مسلم
تجشّم عن أوطانه صوم عامد فجشّم أوطان العدى صوم مرغم
لقد انتصر غاندي بالصيام حيث ثار على تقاليد لبس الثياب البريطانية والمأكولات البريطانية، فانتصر على نفسه أولًا ونجح في الثورة والانتصار على أعدائه ثانيًا.
ما بال المسلمين اليوم لا يستطيعون الانتصار على أعدائهم الذين يجثمون على صدورهم ويدنّسون مقدساتهم؟! الجواب على ذلك واضح، فإن من يكون ضعيفًا بالانتصار على شهوات نفسه فإنه سيكون أضعف بالانتصار على مكر أعدائه.
لقد رأيناهم وشاهدناهم قادة وزعماء عرب ومسلمون، أعضاء كنيست وحتى مشايخ يذهبون في شهر رمضان في السنوات الماضية للإفطار على مائدة رئيس الدولة العبرية ويفاخرون برفع الأذان في مقر رؤساء إسرائيل، فأي صيام هذا الذي يجعلك تشرعن وبعباءة الدين هذا الظلم الواقع علينا والتدنيس الذي لا يتوقف عن أقصانا وعن سائر مقدساتنا.
ومع الأسف ولفهم المؤسسة الإسرائيلية السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية أن صيامنا لم يعد له تلك المعاني السامية والرسائل العظيمة، بل إنه لم يعد عند الكثيرين إلا موسمًا للبحث عن شهوات البطن، حتى إن مصانع وشركات الأغذية الإسرائيلية تتهيأ لهذا الموسم لأنه مصدر ربح وثراء كبير لها، لا بل إن البنوك الإسرائيلية أصبحت تعلن عن قروض وحملات خاصة في رمضان بدعوى التيسير على العائلات وهي في الحقيقة ليست إلا وسيلة لثراء فاحش لهذه البنوك لعلمها أن رمضان أصبح بالنسبة للمسلمين شهرًا للطعام والشراب وملء البطون، ويعقبه موسم رحلات وسفر إلى الخارج في أيام العيد ولو كان ذلك عبر قروض وديون تثقل كاهل أرباب البيوت.
أليس غريبًا أن غاندي الهندوسي قد فهم أن الصوم يعني قوة، بينما من المسلمين من أصبح الصوم عندهم يعني الضعف، والكسل، والترهل والنوم. أليس عارًا أن غاندي الهندوسي قد فهم الصوم هو ثورة على الاستعمار والظلم والاستبداد الذي تمارسه بريطانيا على شعبه، بينما قادة المسلمين ملوكهم وأمراؤهم ورؤساؤهم يتعاملون مع الصيام أنه التذلل والخنوع والخضوع لذلك المستبد الظالم بريطانيًا كان أو أمريكيًا أو روسيًا أو إسرائيليًا.
وهل أدلّ على ذلك من أن يقوم سفير الإمارات الجديد والأول في الدولة العبرية، وفي اليوم الثالث من رمضان بمباركة حكام إسرائيل وشعبها بما يسمونه عيد الاستقلال الثالث والسبعين ن وهو يعلم أن هذا الاستقلال وقيام إسرائيل كان على حساب نكبة شعب عربي وتهجيره وتشتيته، هو الشعب الفلسطيني. فهل حقًا وصدقًا يمكن أن يكون هؤلاء مسلمين وصائمين ويعرفون معاني الصيام الحقيقية؟ إنني أشك في ذلك!!
إننا إذا فهمنا حقيقة الصيام وفلسفته الإيمانية لأورث فينا عزًا ومجدًا وثورة على كل الصعاليك والأقزام من أبناء جلدتنا ومن أعدائنا. ولأن أجيال المسلمين والحمد لله قد بدأت تعود للفهم الحقيقي لرسالة الصيام، فإن هذا مما يقض مضاجع أعدائنا لمعرفتهم أن هذا سيقصّر ويختزل المسافة كثيرًا على طريق انتصار الأمة وخلاصها من ظالميها.
كل رمضان ونحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون