السبت 31 يوليو 2021 14:10 م بتوقيت القدس
طرحت الإجراءات الانقلابية التي أعلنها الأحد الأخير، الرئيس التونسي، قيس سعيّد، سؤالا مقلقا حول ما اصطلح على تسميته “الربيع العربي”، فضلا عن السؤال المتعلق بالتجربة التونسية بعد الثورة، فاتحة ثورات الربيع العربي، فهل تكون إجراءات سعيّد شهادة الوفاة الرسمية لـ “الربيع العربي”.
“المدينة” التقت الباحثين، مهند مصطفى وصالح لطفي وابراهيم خطيب، لمناقشة الهواجس التي تعتري الوجدان العربي وأحلامه بالديموقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بعد العودة الشرسة لأنظمة الاستبداد، والضربة الأخيرة التي وجهها الرئيس التونسي لمعقل ثورات الربيع العربي.
“علينا ألا نستعجل حركة التاريخ”
د. مهند مصطفى، مدير عام مركز مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا، أجاب على سؤال “المدينة”، حول إن كان قيس سعيّد كتب شهادة وفاة الربيع العربي، بالقول إن “القوى المضادة للتحول الديمقراطي، أو ما يطلق عليه “الثورات المضادة” هي حالة ترافق كل عمليات الاصلاح السياسي، أو الثورات السياسية التي تحاول القطع مع النظام السابق وتشييد نظام ديمقراطي. لأن هناك مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية زرعها النظام الاستبدادي على مدار عقود طويلة. هذا هو حال النظام السلطوي في العالم العربي، الذي تميز فيها النظام الاستبدادي بطول عمره، إحكامه وقدرته على التجدد، مما جعله قادر على صدّ موجات التحول الديمقراطي، ونجا حاليا من الثورات الاصلاحية العربية، ولكن ليس طويلا”.
وأضاف: “هذه الثورات التي انطلقت في العقد الأخير، ونحن نعيش عقدا على انطلاقتها، نستعجل ثمارها، من الطبيعي أن تكون هناك قوى مضادة للإصلاح السياسي الديمقراطي، قوى محلية واقليمية ودولية، تتكاتف من أجل ضرب الاصلاح السياسي لأنه يهددها ويهدد مصالحها وهيمنتها. لم تكن هناك عملية تكاتف من أجل ضرب تحول ديمقراطي كما حدث في مصر مع الانقلاب العسكري عام 2013، لأن قوى محلية ذات مصالح، وعلى رأسها الجيش وقوى محلية سياسية متواطئة، وقوى اقليمية ودولية، أدركت أن نجاح التحول الديمقراطي في مصر سيُغيّر العالم العربي كله، لذلك يمكن القول إن الانقلاب العسكري في مصر كان انتصارا كبيرا للثورات المضادة”.
واستدرك: “لكن الثورات العربية لم تنته ولم تمت، ولكننا نستعجل حركة التاريخ في هذا الصدد”.
د. مهند مصطفى
د. مهند مصطفى
النهضة وصيانة التجربة التونسية
بالحديث عن التجربة التونسية ومستجدات المشهد السياسي هناك، يقول: “التجربة التونسية هي تجربة هامة في تقديم نموذج للتحول الديمقراطي وتفكيك الاستبداد، نجحت التجربة التونسية لأن القوى المركزية اتفقت على المشروع الديمقراطي كإطار ينظم الصراع السياسي بينها، ولأسباب تتعلق بالتجربة التاريخية التونسية نفسها. ولا شك أن دور حركة النهضة التونسية كان حاسما في تعزيز التحول الديمقراطي في تونس، حيث استأنفت هذه التجربة على كل المقولات الثقافية والاستشراقية عن استحالة انخراط الحركات الاسلامية في النظام الديمقراطي. أكثر من ذلك، تقدم حركة النهضة نموذجا عن دور حركة اسلامية لم تنخرط في النظام الديمقراطي فحسب، وإنما ساهمت في بلورته والدفع به، واضعة انحيازها للمشروع الديمقراطي التونسي كجزء من منظومة المصالح الشرعية والعامة وفق المنظور الاسلامي كما تأصله في العصر الراهن”.
وأضاف: “الرئيس قيس سعيّد قام في محاولة لضرب عملية الانتقال الديمقراطي باسم الدستور، وهو في الحقيقة ينقلب على الدستور بشكل واضح وفادح. عين نفسه رئيس السلطة التنفيذية، وسمح بوجود حزب مؤيد للنظام السابق ومعاد للديمقراطية يقوم بعمليات هرج ومرج في مجلس النواب مما أفقد هذا المجلس هيبته ومكانته بسبب تصرفات أعضاء هذا الحزب. في الحقيقة أن الأغلبية في مجلس النواب لم تكن تحكم، وحركة النهضة وافقت على هذا الوضع حفاظا على النظام الديمقراطي وادراكها “وتضحيتها” أنها لا تريد افتعال أزمة سياسية في ظل مرحلة حساسة من الانتقال الديمقراطي، وفي سياق جائحة كورونا التي زادت من تحديات النظام التونسي. انقلب سعيّد على حركة النهضة وعلى الدستور، وتساوق مع الثورات المضادة التي ارادت هزيمة التجربة في تونس، المقلق في الحالة التونسية أن هذه القرارات صدرت بوجود قيادة الأجهزة العسكرية والأمنية، رغم أن أغلب القوى السياسية التونسية رفضت هذا الانقلاب الدستوري”. حول أخطاء القوى الثورية في العالم العربي، يقول د. مهند: “واضح أن هناك خطأ يتكرر في كل الحراكات الثورية والاصلاحية في المنطقة العربية، وهو استعجال قطف ثمار الحراك الثوري عبر الرهان على قوى ومؤسسات من النظام السابق، لذلك يظهر أن العطب كان في أن الحراكات الشعبية كانت اصلاحية وليس ثورية بمفهوم تفكيك النظام السابق. إن ابقاء مؤسسات من النظام السابق أو السماح لقوى سياسية من النظام السابق بالانخراط في عملية الاصلاح السياسي كان الخطأ الفادح في أغلب الثورات العربية”.
أنصار الاستبداد والأخلاق
وتطرق إلى دعم بعض الفلسطينيين لقوى الاستبداد، بالقول: “الاستبداد هو سبب تعثر نهضة العرب، وهو سبب استمرار استعمار فلسطين، فكيف يمكن أخلاقيا وسياسيا للفلسطيني أن يدعم نظام مستبد اذا كانت لديه الفرصة للاختيار بين ثورة ديمقراطية ونظام ديمقراطي وبين نظام استبداد وانقلاب استبدادي. لا يُمكن للفلسطيني سياسيا أن يتحرر من الاستعمار إلا إذا انتهى الاستبداد في العالم العربي، أنا شخصيا ليس عندي لغة مشتركة أو حوار عقلاني مع انسان يدعم الاستبداد، لا تقوم التعددية بين من يدعم الاستبداد ومن يناهض الاستبداد، هذه ليست تعددية. التعددية تنطلق من أرضية مشتركة هي رفض الاستبداد والوقوف من الاصلاح السياسي الديمقراطي بما يمثل ارادة الناس وخياراتهم السياسية، غير ذلك هو تواطؤ مع الاستبداد. لذلك الفلسطيني الذي يناضل من أجل حريته عليه أن يرفض كل أشكال الاستبداد. قوة قضية فلسطين أنها قضية تحرر، تحرر الانسان وتحرر الوطن. لا معنى لتحرير الوطن بدون تحرير الانسان بعد تحرير الوطن. في العالم العربي تحررت الأوطان وتم الاستبداد بالمواطن. فتحولت الأوطان إلى عزب لنظم سلطوية بدأت ثورية ولكن استبدادها حولها إلى نمط اسوأ من النظم السابقة”.
في ختام طرحه يبدي مهند مصطفى تفاؤله: “علينا التفاؤل دائما بالثورات العربية، فما زالت في بدايتها رغم تعثرها، فكلما بقيت بذور الثورات العربية سيبقى من يحاربها ويشوه سرديتها وأهدافها، لان منطق الثورات هو ضد الاستبداد السياسي بكل أنواعه، وهنالك في المنطقة والعالم من يريد بقاء الاستبداد في العالم العربي والاسلامي، لأن وجود الاستبداد هو الضمانة لدونية العرب والمسلمين الدائم”.
الربيع العربي بنسخته الأولى
الباحث والكاتب السياسي الأستاذ صالح لطفي، يقول في سياق إجابته على نهاية الربيع العربي: “عمليا أغلق الربيع العربي مع انقلاب السيسي والجرائم التي يرتكبها في مصر، ولكن تكمن أهمية هذا الانقلاب في تونس، أنه يسدل الصفحة الأخيرة من تاريخ الربيع العربي بنسخته الأولى، واعتقد أن هذا الانقلاب الدستوري في تونس المحمي عسكريا نحن في بداياته”.
ويستدرك قائلا: “لكن هذا لا يعني أبدا أن هذه المسيرة العربية ضد نظم الاستبداد قد توقفت بل هي في مرحلة من المراجعات والتفكر طمعا لابتداء مسيرة مباركة قادمة تبدأ من حيث انتهت الثورات ومعها قوافل الشهداء”.
“ثالوث العملاء”
حول ماهية الدولة العميقة في العالم العربي وإحكام قبضتها قال صالح لطفي: “لكل بلد عربي مكوناته العميلة والجامع بينها جميعا ثالوث العسكر والمخابرات من جهة والقوى العلمانية الاستئصالية الكارهة للإسلام وللعروبة، ومن ثم فهذه القوى لا تعتبر نفسها بحال جزء من المكون البشري لتلكم الدول بقدر ما تعتبر نفسها جزءا من المنظومة الغربية وبالتالي فثمة قطيعة بينها وبين شعوبها وفي سيطرتها على الدولة تسعى لتطبيق “نحن شعب وهم شعب” ومن ثم فالعداء بين هذه المكونات المسماة دولة عميقة وشعوب تلكم البلدان هو حتمي وضروري. ومن الخطورة بمكن أن تقبل قوى الثورة بالمصالحة مع هذه المجموعات، وهذا بالضبط ما حدث في الثورة التونسية فقد قامت هذه القوى المسماة بالدولة العميقة بطأطأة الرأس لتتجاوز الربيع التونسي وتبقى موجودة بأقل الخسائر الممكنة مراهنة على دعم القوى الخارجية لها لاسترداد أمرها أو للعودة ثانية للحكم والسيطرة، ولكن تحت ظروف معدلة تتلاءم والظرفية والحالة التونسية، ومن ثم فالصراع بين هذه القوى العميلة هو وجودي بالمعنيين السياسي والأخلاقي”.
مواصفات خاصة
حول توقعاته لمآل الأحداث في تونس، يوضح الباحث صالح لطفي: “أنا أزعم ان الحالة التونسية تتمتع بمواصفات خاصة تختلف شيئا “ما” عن باقي حالات الربيع العربي تتعلق بالصيرورة السياسية-الفكرية التي مرت بها تونس في العهد البورقيبي والتي خلقت جيلا متعلما وأسست لوجود راسخ لقوى علمانية بين أن تكون لائكية أو منفتحة على الآخر ونتيجة لهذه الوضعية تأثرت حتى قوى إسلامية بهذا الوضع، ومن ثم فقد تخلق داخل تونس جمع من القوى التي جمعت بين أصوليات مفتوحة ومغلقة وبين قوى متذبذبة ومستفيدة ووصولية تعلق بعضها بقوى خارجية (القوميين الناصرين والاشتراكيين والليبراليين) وبالتالي هذا المزيج خلق داخل المشهد التونسي ثلاث حالات، للوهلة الأولى متناقضة ولكن قراءات لها ضمن منطقي التدافع القدري وحركة الحياة يبين غير ذلك، قوى متواصلة مع الشعب يهمها همومه وتطلعاته، وأخرى متواطئة ومتمولة من العرب والغرب مهمتها الأساس إزاحة النهضة وكل ما هو إسلامي عن المشهد السياسي، ولذلك فتعقيد المشهد التونسي مرهون بعامل العسكر وأجهزة الامن وتحركاتها من جهة ومرهون بالقوى الإسلامية وتحركاتها. خلاصة الأمر أننا أمام مشهد سياسي تونسي لن تكون فيه تونس الغد كتونس اليوم، ويخطئ العسكر ومن معهم من العلمانية اللائكية إن فعلوا بالإسلاميين التونسيين ما فعلت الطغمة الفاشية العلمانية والعسكرية في مصر، فالتيار الإسلامي بكل مركباته متقدم جدا على باقي المكونات السياسية والأيديولوجية”.
“لا يجب جلد الذات”
وحول إن كان سقوط تجربة الربيع له علاقة بالقوى الثورة، يضيف صالح لطفي: “أنا شخصيا أكره جلد الذات وأومن أن كل مجتهد متحصل على أجر اجتهاده، وعليه ففي اعتقادي أن القوى الثورية في كل أماكن الربيع العربي اجتهدت لمصلحة شعوبها وتدافعت في لحظات تاريخية حساسة مع قوى متغلبة”.
عبيد الاستبداد
كيف ينظر الباحث صالح لطفي إلى الكيانات الفلسطينية المؤيدة لقوى الاستبداد، يجيب بالقول: “هناك قابلية الاستعمار وهناك قابلية الاستخذاء وهناك قابلية الجهل وهناك قابلية الاستحمار وهذه كلها اجتمعت عند هؤلاء الذين آثروا أنظمة الطاغوت والفساد والاستبداد لا لسبب الا لاجتماع رباعية الفناء الأخلاقي والمادي القائم أصلا على الحقد والظن الموهوم بالفعل الصحيح والزعم الكاذب انهم على حق، والخيط الناظم لهذه المجموعة انها تعتبر القضية الفلسطينية خارج السردية الإنسانية المُعذبة ولا يجوز القياس عليها باعتبار خصوصيتها وباعتبار انها استثناء لا يجوز القياس عليه وتتغول هذه المجموعة يوم تجعل المقاومة والممانعة حجة وتبريرا لكل فعل استبدادي ولكل فعل فاشي وهي بذلك تتساوق وأنظمة الاستبداد في جعل القضية الفلسطينية شماعة لقهر شعوبها وإذلالها. المثقف الفلسطيني المتواطئ مع الاستبداد العربي، هو في حقيقته متماه مع الاحتلال وإن قال غير ذلك”.
“لا يمكن أن ننعى الربيع العربي”
من جانبه، يقول الباحث السياسي والمحاضر الجامعي، د. إبراهيم خطيب: “صحيح أن ما قام به قيس سعيّد هي إجراءات انقلابية على الدستور والمفاهيم التي جاء بها الربيع العربي حول تقاسم السلطة والتعددية السياسية، ولكن لا يمكن أن ننعى الربيع العربي، لأن فكرته حول مفاهيم الحرية والكرامة قد تجذّرت رغم الانتكاسة الحاصلة. قيم الربيع العربي في اعتقادي تأصلت في وعي الشعوب العربية وسيكون هناك في المستقبل بإذن الله المزيد من التجارب الثورية”.
الدولة العميقة
وحول مدى تغلغل الدولة العميقة في أركان الدولة العربية عموما، يرى خطيب أن “مفهوم الدولة العميقة متجذر في عدة دول، وهو مرتبط بالنظام البيروقراطي وعلاقات القوى داخل الدولة، وذلك بسبب طبيعة الدولة العربية التي نشأت على نوع معين من القيادات، وبالتالي يمكن القول إن هذه الحالة لها تأثير على الواقع السياسي في الدول العربية”.
ويوضح “هل هذه الحالة من الدولة العميقة متأصلة وهل الصراع معها وجودي، اعتقد أن هذا مرتبط بما تريده الشعوب المهددة من قبل كيان الدولة العميقة، فإن شعرت الشعوب بتهديد مصالحها يكون حراكها في اتجاه مناهض للدولة العميقة وشخوصها، وهذا ما كان في الربيع العربي عندما ثارت الشعوب ضد فساد الأنظمة والدولة البوليسية وعدم احترام إرادة الشعوب”.
وفيما يخص التطورات في الممكنة في المشهد التونسي، يشير الدكتور إبراهيم خطيب، إلى أنه “لا يمكن التنبؤ بمستقبل الحالة التونسية، رغم أن الواقع يشير الى دور خاص للأحزاب والمجتمع المدني التونسي مختلف عند سائر المجتمعات في العالم العربي، وبالتالي لا أظن أن المجتمع التونسي سيكون سهل المنال كما الحالة المصرية مثلا. ولكن بعد التجارب الكبيرة الدامية المناهضة لثورات الربيع العربي، لا يمكن استبعاد أي شيء، خاصة في ظل الحديث عن دخول قوى إقليمية وغربية على الخط ودعمها لإجراءات سعيّد التي تتجه نحو النظام الديكتاتوري”.
أخطاء قوى الثورة في تونس
برأي خطيب، فإن “القوى الثورية في تونس أخطأت في 3 جوانب: عدم توظيفها لحالة التوافق التي سادت بعد إقرار الدستور التونسي ولاحقا التوليفة الحكومية من أجل النهوض بالبلد، بالرغم من أنه في التجارب الديموقراطية الناشئة لا يمكن إحداث التغيير في مناحي الحياة بالسرعة التي يرغب بها البعض. والخطأ الثاني في اعتقادي أن القوى السياسية التونسية لم تنجح في الحفاظ على توافقها السياسي وفق رؤية واحدة لمستقبل البلد، كذلك فشلت في التعامل مع حالة الدولة العميقة وحالة الأحزاب الاقصائية المرتبطة بالنظام القديم”.
وحول تفسيره لتأييد قوى فلسطينية لأنظمة الاستبداد رغم الحالة الفلسطينية الخاصة بفعل البطش الإسرائيلي، يقول الدكتور إبراهيم خطيب في ختام مداخلته لـ “المدينة”: “برأي أن الانتماء السياسي لبعض القوى هو المحدد لمواقفها من الاستبداد، إلى جانب موقف هذه القوى الأيديولوجي من الحركات الإسلامية وخوفها من التبخر إذا ما استلمت القوى الإسلامية الحكم، لا سيّما وأن القوى العلمانية في العالم العربي كانت رافعة دائما لقوى الاستبداد الحاكمة، وبعض القوى العلمانية مستعدة أن تقف مع الشيطان للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها لذلك تجد مناصريها يؤيدون أنظمة الاستبداد بدون تحفظ”.