الجمعة 20 اغسطس 2021 08:56 م بتوقيت القدس
نشرت صحيفة “ميدل إيست آي” مقال للكاتب “آزاد عيسى”، سلط فيها الضوء على ما اعتبرها “تلميحات عنصرية” في صميم خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، بشأن الانسحاب من أفغانستان.
وأشار الكاتب في مقاله، إلى خمس مقاطع في خطاب بايدن، الذي ألقاه الاثنين، في محاولة لتفسير قراره “الاستعجال” بسحب القوات من أفغانستان، وترك المجال لحركة طالبان لتعلن انتصارها.
وبرز في تلك المقاطع، وفق الكاتب، ازدراء ذو بعد تاريخي للشعب الأفغاني، “مستدعيا فيه الاستعارات العنصرية والاستشراقية حول ذلك البلد”.
وتاليا نص المقال مترجما:
بعد ما يقرب من عشرين سنة من الحرب وإنفاقاً عسكرياً قدره 2.26 تريليون دولار (أو 300 مليون دولار في اليوم الواحد على مدى عقدين من الزمن) وإزهاق مئات الآلاف من الأرواح، سارت طالبان إلى داخل كابول يوم الأحد واستولوا على قصر الرئاسة دون إطلاق رصاصة واحدة.
جاء الانتصار على كابول فقط بعد أسابيع من انسحاب الجيش الأمريكي من البلاد.
الأحداث السريالية دفعت باتجاه انهيار جماعي في الولايات المتحدة بينما تملكت الدهشة الخبراء والسياسيين والجمهور بشكل عام إزاء السرعة التي تلاشت بها الاستثمارات الأمريكية.
يوم الاثنين، خرج الرئيس جو بايدن عن صمته وخاطب الأمة، محاولاً في خطابه أن يفسر قراره سحب القوات وفي نفس الوقت أن يرد على بعض الانتقادات التي وجهت لإدارته بسبب “العجلة” التي تم بها تنفيذ العملية.
أقر بايدن بأن الولايات المتحدة أساءت تقدير عزم طالبان على الاستيلاء على البلاد. إلا أن بايدن حاول التهرب من مسؤولية الولايات المتحدة عن دورها في زعزعة البلد وكذلك التعمية على استخدام أمريكا للقيم في حملات التدخل في البلدان الأخرى. وفي النهاية حمل اللوم كله للشعب والقيادة في أفغانستان لأنهم رفضوا القتال من أجل مستقبلهم هم، مستدعياً في ذلك الاستعارات العنصرية والاستشراقية حول البلد.
كان خطابه تجسيداً لنفس السياسة الخارجية الأمريكية التي حددت دور الولايات المتحدة في أفغانستان والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق منذ الحرب العالمية الثانية.
ولكنه أيضاً وصل حد المراجعة التاريخية التي كشفت، في الصميم منها، عن ازدراء عميق للشعب الأفغاني.
في ما يأتي خمسة مقاطع من خطابه ورد فيها التأكيد على بعض من هذه القضايا:
1) لم يكن بتاتاً من المفترض في مهمتنا في أفغانستان أن تكون عملية بناء للبلد، ولم يكن بتاتاً مفترضاً فيها أن توجد ديمقراطية مركزية وموحدة.
أصر بايدن في خطابه أن الغاية من الدخول إلى أفغانستان كانت تفكيك القاعدة وقتل أسامة بن لادن بسبب دوره في هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001. ولم يكن المقصود من دور أمريكا إعادة بناء البلد، كما قال.
طبقاً للمفتش العام لإعادة بناء أفغانستان (سيجار) أنفقت الولايات المتحدة منذ عام 2001 ما مقداره 145 مليار دولار على إعادة بناء القوات المسلحة ومؤسسات الحكومة المدنية والاقتصاد والمجتمع المدني.
قبل ثمانية عشر عاماً وقف بايدن نفسه أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ليقول إن تجاهل “بناء الأمة” في أفغانستان من شأنه أن يولد الفوضى.
وقال: “في بعض قطاعات الإدارة مازال بناء الأمة مصطلحاً قذراً، إلا أن البديل عن بناء الأمة هو الفوضى، فوضى تنتج بغزارة أرباب حرب متعطشين للدماء، وتجار مخدرات وإرهابيين.”
ظلت كلمات مثل “الديمقراطية” و “الحرية” وما على شاكلتهما تستخدم على مدى زمن طويل من قبل الولايات المتحدة لتبرير عمليات الغزو التي تقوم بها.
إنه لإنجاز جديد أن تسمع رئيساً أمريكياً غير دونالد ترامب يعترف بأن “أمريكا أولاً” وأنها فوق كل ما عداها.
1) لا يمكن للقوات الأمريكية ولا ينبغي لها أن تخوض حرباً وتموت في حرب ليس لدى القوات الأفغانية الاستعداد لخوضها بأنفسهم… لقد منحناهم كل الفرص لتقرير مستقبلهم بأنفسهم، ولكننا لم يكن بوسعنا منحهم الإرادة للقتال من أجل ذلك المستقبل.”
لا يقتصر الأمر على أن الزعم بأن الأفغان لم يكونوا مستعدين للقتال من أجل مستقبلهم خطأ مأساوي، بل إنه فرية لا طعم لها، حتى أن مارك ثيسين من صحيفة ذي واشنطن بوست اعتبرها تشهيرية، حيث كتب ثيسين يقول:
2) “على مدى أكثر من ست سنين، تحمل الجيش الأفغاني عبء القتال – وبدعم من الجيش الأمريكي تمكنوا من صد طالبان. فقط عندما سحب بايدن تخطيط الحملة الأمريكية واستخباراتها ودعمها الجوي نجم عن ذلك تمكين طالبان وأسقط في أيادي القوات الأفغانية.”
بالإضافة إلى ذلك، راح بايدين يستخدم مجموعة واحدة من الحقائق لكي يستخلص ما بدا استنتاجات معاكسة. فقد دخلت الولايات المتحدة أفغانستان لكي تطيح بطالبان (عقاباً لهم على استضافة أسامة بن لادن). ولم يأت الأمريكان نزولاً عند رغبة الأفغان. بمعنى آخر، لقد جرت الولايات المتحدة الأفغان إلى حرب لم تكن من صنع أيديهم.
ومنذ الإطاحة بطالبان في 2001 ظل الأفغان على مدى العشرين سنة الماضية محتلين من قبل الولايات المتحدة، وكانت مكاسبهم تنظمها رغبات ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولم يكن لدى الأفغان أي خيار في ذلك.
وفي ما يتعلق بقضية تخلي وتولي الجنود الأفغان أو رفضهم القتال ضد طالبان، فإن بايدن يعرف بأن الكثير من عناصر طالبان أيضاً تخلوا وتولوا بعد الغزو في عام 2001.
وكما قال مقاتل سابق في تصريح للصحفي جون لي أندرسون من صحيفة ذي نيويوركر في نوفمبر 2001: “ُفي أمريكا وفي غيرها من الأماكن، لدى الناس فكرة بأن بلدانهم مهمة بالنسبة لهم. ولكن في أفغانستان لا توجد مثل هذه الفكرة لدى المقاتلين، والفقر هنا هو ما يقودهم لأن ينضموا إلى صف القوي أياً كان.”
ولطالما علمت الولايات المتحدة أن الشرطة الأفغانية لم تكن محترمة في أعين الشعب. بل لقد وصفهم مسؤول في سلاح البحرية بأنهم “أكثر مؤسسة مكروهة” في أفغانستان.
وفي انتخابات عام 2019 كانت ثقة الشعب متدنية جداً لدرجة أن 20 بالمائة من الناس فقط شاركوا في انتخاب ما غدا حكومة أفغانية هشة.
وحتى مع تعبير بعض الأمريكان عن سخطهم بسبب طريقة ترتيب الانسحاب، لم تطرح كثير من الأسئلة حول مبررات غزو البلد في المرتبة الأولى.
يذكر أن الكونغرس لم يصوت على بدء الحرب في أفغانستان تحديداً، وإنما صدر عنه قرار عام منح الجيش التفويض لملاحقة أولئك الذين كانوا مسؤولين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وفاز القرار بأغلبية 420 صوتاً مقابل صوت واحد. كما لم يكن هناك بتاتاً قرار لمجلس الأمن الدولي يقر الغزو.
3) “كم من الأجيال الأخرى من بنات وأبناء الأمريكيين تريدونني أن أرسل للقتال في حرب أهلية تدور رحاها في أفغانستان عندما يتقاعس الجيش الأفغاني عن خوضها؟ كم من الأرواح الإضافية، كم من الأرواح الأمريكية الإضافية، يستحق الأمر إزهاقها، وكم من الصفوف التي لا نهاية لها من شواهد القبور في المقبرة الوطنية في آرلينغتون؟”
وكما هو متعارف عليه في حالة جميع الرؤساء الأمريكيين (وفي حالة معظم الأمريكيين العاديين بهذا الشأن) فإن الخسائر في الأرواح في أفغانستان إنما هي في واقع الأمر حكاية الخسائر في أرواح الأمريكيين، حكاية التضحيات الأمريكية والألم الأمريكي.
لم يأت بايدن على ذكر أعداد الأفغان الذين قتلوا أو أصيبوا أو شردوا بسبب الحرب، ولم يأت على ذكر المواقع السوداء لعمليات المخابرات الأمريكية (السي آي إيه) التي كان الأفغان يعتقلون فيها ويتعرضون للتعذيب، بدون مبرر في كثير من الأوقات.
ولم يأت على ذكر الغارات الجوية التي فتكت بشكل روتيني بالمدنيين أو تركت بنات وأبناء بلا أمهات ولا آباء. كانت لدى الولايات المتحدة مهارة في حرق حفلات الأعراس عن بكرة أبيها. وهذا أيضاً لم يأت بايدن على ذكر شيء منه.
طبقاً لما توصل إليه الباحثون في مركز المدنيين في الصراع وفي معهد حقوق الإنسان التابع لكلية القانون في جامعة كولومبيا، كان يندر أن يزور الجيش المواقع في أفغانستان أو العراق أو سوريا بعد مزاعم بتعرض مدنيين للقتل في ضربات جوية بالطائرات المسيرة عليها. خلصت الدراسة إلى أن الجيش الأمريكي زار 16 بالمائة فقط مما مجموعه 228 موقعاً ما بين عامي 2002 و 2015.
ولم يرد ذكر غوانتنامو بيه حيث مازال يقبع أربعون من “السجناء المؤبدين” وراء القضبان. منذ بدء الحرب على الإرهاب سجن في غوانتنامو 800 شخص، على الرغم من أن 75 بالمائة منهم لم توجه لهم تهم بارتكاب أي جرائم.
وفي سبتمبر/ أيلول 2020 قال مشروع تكاليف الحرب الذي تنفذه جامعة براون إن ما لا يقل عن 37 مليون شخص، بما في ذلك 5.3 مليون أفغاني، أجبروا على النزوح من ديارهم بسبب الحروب الثمانية التي شنها الجيش الأمريكي أو شارك فيها منذ عام 2001.
ومع ذلك، وكما جاء في خطاب يوم الاثنين، كان الأمر كله يتعلق بحياة الأمريكيين دون غيرهم. قال بايدن إنه يشعر بالحزن إزاء الجهود التي يبذلها الأحباب من المقاتلين الأمريكيين السابقين والمنظمات غير الحكومية والإنسانية في أمريكا (سواء كانوا متفرغين أو متطوعين) الذين اضطروا لترك أفغانستان وراءهم.
4) “من المحزن أن الأحداث التي نراها الآن تثبت أنه لا قبل لأي عدد من القوات المسلحة بجلب الاستقرار والوحدة والأمن إلى أفغانستان … لم تفلح جهودنا على مر عقود في التغلب على قرون من التاريخ وفي تغيير أفغانستان وإعادة تشكيلها بشكل دائم، وكما كتبت وآمنت، لم يكن ذلك لينجح بتاتاً.”
من المثير للانتباه أن يقر فريق بايدن الرئيس على إيحاءاته الاستشراقية والعنصرية حول إخفاق أمريكا التي كانت بكل حسن نية تسعى حل المشاكل المستعصية منذ قرون في هذ البقعة من أقاصي الأرض.
كما يثير العجب أيضاً أن يقول بايدن بجرأة بالغة إنه “ليس بمقدور أي عدد من القوات العسكرية جلب الاستقرار والوحدة والأمن إلى أفغانستان” إذا ما أخذنا بالاعتبار استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية بشكل منتظم من أجل تحقيق نفس هذه الغايات. ولكن حتى هنا، لا يزيد التأكيد على الحاجة إلى تقليص القوة العسكرية عن كونه أحبولة يقصد منها ترك الباب مفتوحاً أمام تطوير الخيارات العسكرية التي تمت تجربتها واختبارها في أفغانستان.
بمعنى آخر، لا يقصد بايدن استبدال القوة العسكرية بالعناق والقبلات، وإنما يقصد استبدال الجنود بالمعدات والأجهزة التكنولوجية المطورة.
5) “سوف نستمر في الحديث دعماً للحقوق الأساسية للشعب الأفغاني، للنساء والفتيات، تماماً كما نفعل في كل أنحاء العالم.”
كان جل الاهتمام في الصحافة الغربية خلال الأيام القليلة الماضية يتركز حول مدى ما سيحصل من انقلاب بسبب استيلاء طالبان على البلد على المكاسب التي تحققت طوال العشرين سنة الماضية في مجال تمكين النساء.
على الرغم من أن طالبان ما لبثت يؤكدون أن ذلك لن يحصل، زاعمين بأن موقفهم قد تغير إزاء تعليم الفتيات وتواجد النساء في الأماكن العامة، بما في ذلك في مواقع العمل، فإن من المبكر جداً الجزم بما إذا كانوا سيلجأون إلى ما كانوا يمارسونه من قبل من إجراءات تعسفية.
ولكن حتى مع ذلك فإن التركيز المنفرد على مصير النساء وتعليم الفتيات، بينما تستولي طالبان تارة أخرى على زمام الأمور، يتجاهل جملة من الحقائق.
بادئ ذي بدء، تهميش النساء في أفغانستان سابق على ظهور طالبان.
يضاف إلى ذلك أن الهستيريا الحالية بشأن “إنقاذ النساء الأفغانيات” بينما تمضي طالبان في السيطرة يكشف كيف كان “إنقاذ النساء الأفغانيات” في المقام الأول مجرد ذريعة لكسب التأييد من أجل شن الحرب على أفغانستان.
بمعنى آخر كان “إنقاذ النساء الأفغانيات” قد تحول إلى سلاح لصرف الأنظار عن عدم مشروعية حرب أمريكا ضد الإرهاب وتجاهلها للمؤسسات الدولية وتجاوزها لحقوق الإنسان في أفغانستان وفي غيرها من الأماكن.
هذا ما خاطبت به السيدة الأولى لاورا بوش الأمة الأمريكية في السابع عشر من نوفمبر / تشرين الثاني في عام 2001: “بسبب مكاسبنا العسكرية في كثير من مناطق أفغانستان، لم تعد النساء سجينات في بيوتهن. بإمكانهن الآن الاستماع إلى الموسيقى وتعليم بناتهن دون خوف من العقاب … القتال ضد الإرهاب هو أيضاً قتال من أجل حقوق وكرامة النساء.”
والآن، وكما أقر بايدن، كانت تلك باستمرار حرباً هدفها تدمير القاعدة وقتل أسامة بن لادن وتحقيق المصالح الأمريكية الأخرى. لم تكن الخطوة الأولى في نزع السلاح أو السعي من أجل العدالة أو إنهاء المجمع الصناعي العسكري الذي يهيمن على السياسة في الولايات المتحدة. لقد كانت مجرد مشروع آخر لتمكين الإمبراطورية الأمريكية. وهم الآن يتهيأون للانتقال إلى مشروع آخر.