السبت 26 فبراير 2022 12:27 م بتوقيت القدس
في عام واحد افتقد رسول الله صلى عليه وسلم أهم ركنين من أركان دعمه ومساندته، افتقد عمّه الذي كان يمثل الدعم العصبي القبلي، وافتقد زوجه التي احتضنته بحنانها ودعمته بمالها وأيدته بحكمتها، وكان يعاني من حصار المشركين لمدة 13 عاما وقد بلغ ذروته بعد أن حاول أن يفك هذا الحصار ويذهب إلى الطائف فقوبل بالإهانة والأذى، عندها رفع يديه الطاهرتين ودعا الله قائلا: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس). هذا تصوير مقتضب جدا للظروف التي عاشها سيدي وحبيبي رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، فجاءه الردّ سريعا من خلال استدعاء رباني بدعوته إلى رحلة تخطّت حدود الزمان والمكان- لتخفف عنه حزنه وتزيل همّه- فُتِحت له السماوات أولا لِتُفتح له الأرض بعدها، من خلال رحلة الإسراء والمعراج والتي نعتبرها كمسلمين ثابتا عقديا من ثوابتنا الإسلامية، ومعجزة مادية من معجزات الرسول عليه أفضل الصلوات وأتمّ التسليم، التي أدهشت كافة الناس من مسلمين ومشركين لغرابتها وعدم قدرة العقل الإنساني على استيعاب وتقبل حدوث مثل هذه الرحلة ببضع من الليل، والتي لو قام شخص عادي بالسفر من مكة إلى القدس لاستغرق معه الأمر 12ساعة على الأقل (طبعا في السيارة) ولكن المدهش أن عملية الإسراء والمعراج لم تتعد السويعات. ولكن بعيدا عن أحداث هذه الرحلة ومجرياتها سأحاول قدر المستطاع تسليط الضوء على دلالات هذه الرحلة الربانية من خلال الآية الكريمة: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ):
1- من خلال هذه الآية، نرى أنه مثلما تمّ اعتبار مكة المكرّمة كلها مسجد حرام ومقدسة عند المسلمين، فقد تمّ اعتبار القدس كلها كذلك مسجدا ومقدسة ومباركة عند المسلمين، وهذا يثبت بالدليل القاطع إسلامية القدس وحرمتها، لذلك عوملت القدس في الإسلام على أنها مقدسة فكان فتحها دائما صلحا سواء في عهد عمر ابن الخطاب أو في عهد صلاح الدين الأيوبي حفاظا على قدسيتها وتجنيبها الحرب، حيث فُتحت جميع البلاد عنوة إلا مدينة القدس فتحت صلحا.
2- الدلالة على شمولية الإسلام من خلال الربط بين الحرم المكي قبلة الأمة والرسالة الخاتمة وبين الحرم القدسي قبلة النبوات السابقة، دلالة على تعدد الشرائع في إطار هذا الدين الواحد وهو الإسلام (إنّ الدين عند الله الإسلام)، وبذلك نعتبر القدس ثابتا عقديا من ثوابتنا الإسلامية لا يمكن التخلي أو التنازل عنه، لأن هذا الثابت ثبت بتوقيع رباني ومعجزة مادية تمّ ذكرها بالمعجزة الخالدة الدائمة (القرآن الكريم).
3- صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامته بالأنبياء والرسل في المسجد الأقصى، دليل آخر على شمولية الإسلام واحتوائه لكل الرسالات، فإمامة النبيّ الخاتم، دلالة واضحة أنه يحمل الرسالة الجامعة الشاملة الخاتمة المكملة لباقي الرسالات، فكما نعلم بأن الشريعة اليهودية لا تعترف بالمسيحية ولا بالإسلام، والشريعة المسيحية لا تعترف بالإسلام وإن اعترفت باليهودية، وكل من أتْباع الشريعتين يحاول احتكار القدس له فقط، وأنها مدينته المقدسة الخاصة به فقط، بينما جاء الإسلام واعترف بقدسية القدس عند جميع الديانات ولم يحتكرها على نفسه، لذلك فقد عاش اليهود والنصارى في مدينة القدس خلال حكم المسلمين بأريحية تامة والسماح لهم بحرية العبادة، وخير شاهد على ذلك، أن من يفتح كنيسة القيامة لغاية الآن عائلة مسلمة مقدسية نظرا لاختلاف الطوائف المسيحية واقتتالها على هذا الأمر.
4- تعتبر حادثة الإسراء والمعراج معجزة مادية دائمة وخالدة على مرّ الأزمان، معجزة حاضرة للتفكر والتدبر بأحداثها، على عكس معجزات الأنبياء السابقين الذين انتهت معجزاتهم بموتهم لأنها كانت معجزات آنية.
5- تميّز الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بصعوده إلى السماء والوصول إلى سدرة المنتهى وتلقيه فريضة الصلاة بنفسه، دلالة واضحة على تميز هذا النبي ورسالته الخالدة، وتعتبر هذه سابقة غير معهودة في تاريخ الأنبياء، حيث أن الصعود والرفع في النبّوات السابقة كان رفعا معنويا.
إذن خلاصة القول، إن حادثة الإسراء ما كانت إلا لتجسد روح وحدة الشرائع السماوية المختلفة في إطار ديني واحد كامل شامل هو الإسلام، وإن الربط المقدس والتوأمة الربانية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، يعتبر دليلا واضحا على إسلامية القدس واعتبارها من الثوابت العقدية لدى المسلمين، لذلك فإن القدس ليست مجرد قضية أرض محتلة وليست مجرد قضية وطنية فلسطينية وليست مجرد قضية عربية قومية، إنما هي عقيدة ثابتة ورمز لوحدة الدين الواحد وشمولية الإسلام واحتوائه لكل الرسالات، فالقدس خط أحمر بـ “البُنط” العريض لا يمكن لأي إنسان التفاوض أو التنازل عن ذرة من ترابها، لأنها وقف رباني لأبناء الأمة الإسلامية.