المسلم يخاف لكن المسلم لا يكون جبانًا
لقد خاف إبراهيم عليه السلام لما جاءه الضيوف ولم يأكلوا من طعامه ولم يكن يعرف أنهم ملائكة فأوجس منهم خيفه، فعرفوا ذلك فيه {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ} آية 7 سورة هود. ولقد خاف موسى عليه السلام حتى أنه خرج من المدينة خائفًا يترقب {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} آية 21 سورة القصص. وكان هذا قبل إذ يكلف بالرسالة، ولكن وحتى بعد إذ أصبح رسولًا وكلّفه ربه سبحانه بلقاء فرعون فإن الخوف كذلك بدا عليه {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} آية 33 سورة القصص.
فإذا كان هو الخوف الفطري والرهبة الداخلية من بعض الأشياء تصيب بعض الناس، بل كثير منهم حتى أنها أصابت نبي الله إبراهيم ونبي الله موسى، لكن الخوف المرفوض والمذموم فإنه الخوف الذي يقود صاحبه للانهزام وصولًا إلى التخلي عن مبادئه وثوابته ومعتقداته تحت طائلة وتأثير ذلك الخوف كما يقول الاستاذ عامر شماخ في كتابه -إرفع رأسك يا أخي- :”وربما تسلط عليه الظالم للخنوع الذي فيه فأجبره على موالاته وتملّقه فيعيش ذليلًا ويموت ذليلًا”.
فها هو إبراهيم عليه السلام لم يصل به الخوف إلى درجة الهلع والجبن والانطواء على نفسه خشية من كفار قومه وإنما هو الذي تحداهم لما ذهب إلى عقر دارهم يكسّر أصنامهم بل آلهتهم ويجعلها طعامًا وجذاذًا، فبعد إذ قال لأبيه وقومه {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} آية 52-53 سورة الأنبياء، فإنه لم يتردد ولم يتهيّب أن يقول لهم متحديًا بلا خوف ولا خور {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} آية 57+58 سورة الأنبياء. وهذا نبي الله موسى عليه السلام فإن الخوف لم يصل به إلى درجة الهلع والجبن والانطواء وترك رسالته التي كلّفه الله بها خشية وخوفًا من فرعون وإنما هو الذي بعد إذ هدد فرعون وتوعده قائلًا {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} آية 137 سورة الأعراف، فإن جواب موسى عليه السلام كان جواب الشجاع الذي لا يهاب ولا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلًا، فكان جوابه {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} آية 128 سورة الأعراف، بل إنه لما خاف وقلق أصحابه من أن يدركهم فرعون فيقتلهم، فقد قال موسى عليه السلام لهم بلسان الواثق المطمئن {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} آية 62 سورة الشعراء.
هكذا علمنا محمد ﷺ
يقول المرحوم الشيخ محمد الغزالي في كتابه -جدد حياتك-: “وتلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن أنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخًا في عمله، وإذا اتجه كان واضحًا في هدفه مطمئنًا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلّمنا يعرف التردد سبيلًا إلى نفسه، وقلّما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل لا، عليه أن يقول لمن حوله {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ*مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} آية 39-40 سورة الزمر. هذه اللهجة المقرونة بالتحدي وهذه الروح المستقلة في العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق ذلك يجعله في الحياة رجل مبدأ متميزًا، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين نأى بنفسه واستوحى ضميره وحده”.
ويقول الأستاذ عامر الشماخ: “إن حصول السكينة في قلب المؤمن نتيجة طبيعية لاعتزازه بالله وتفويض الأمور إليه، وساعتها يستصغر كل شيء وأي شيء، فلا يخاف ولا يحزن ولا يقلق وتملأ الطمأنينة قلبه فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله”.
يحكى أن مسلمًا قد ذهب سفيرًا إلى بلاد الأعداء، فأرادوا أن يهزأوا به وأن يذلّوه، فصنعوا له ممرًا وبسبب ضيقه فإنه يضطر للدخول على ملكهم وهو راكع منحنٍ، إلا أن ذلك الرجل المؤمن قد فطن إلى حيلتهم فدخل الممر الضيق متكئًا على يديه ويزحف إلى الخلف بينما قدماه كانت أول ما ظهر من جسده عند نهاية الممر ثم انتصب قائمًا وهو يقول: “علمنا محمد ألّا نركع لغير الله”.
عشنا أعزاء ملء الأرض ما لمست جباهنا تربها إلا مصلينا
لا ينزل النصر إلا فوق رايتنا ولا تمسد الظبا إلا نواصينا
فقبلوا ترب حطين فإن به دم البطولة من أيام حطينا
أليس عمر رضي الله عنه قد قال: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”.
إنه عمر رضي الله عنه الذي نظر إلى شاب منكسّ الرأس، فصاح به: “ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقًا إلى نفاق”. وقال لشاب آخر رآه منكسًا رأسه: “ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمرض”.
وهو رضي الله عنه الذي مرّ على رجل وقد تخشّع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال له عمر: “ألست مسلمًا؟ قال: بلى. قال: فارفع رأسك وامدد عنقك فإن الإسلام عزيز منيع”.
فهكذا المسلم يكون دائمًا منتصب القامة مرفوع الرأس كما علمنا عمر رضي الله عنه وكما علمنا محمد ﷺ.
قولوا للطغاة لا ومليون لا
يقول الأستاذ عامر شماخ في كتابه الجميل -إرفع رأسك يا أخي-: “إن مما يقدح في عزة المسلم أن يقدم التنازلات لخصوم الإسلام وأعداء الدعوة. تبدأ هذه التنازلات قليلة صغيرة وتنتهي بالانحراف الكامل في نهاية الطريق، وخصوم الإسلام يدركون تمامًا أن الذي يقبل المساومة في دعوته ولو بشكل يسير في المرة الأولى فسوف يقبل بالتفريط فيما هو أكبر بعد ذلك، وهم يستخدمون مع هذا الصنف من الناس طريقة “العصر” فكلّما وجدوا منه استجابة ضغطوا عليه من أجل المزيد كالليمونة لا تكف اليد عن عصرها حتى ينفذ ماؤها ولا يبقى منها سوى القشرة التي يكون مآلها سلة المهملات”.
إن المؤمن المستعلي بإيمانه لا يغيّر جلده ولا يتدنى بالاستجابة لمبغضه وعدوه وهو يقبل العذاب ولا يقبل إقرار الظالم على ظلمه، لا يداهن، ولا يفرط، ولا يساوم يحذر التدليس والافتتان والاستدراج ولا يركن إلى الطغاة ولا يتبع أهواءهم.
تهون الحياة وكل يهون ولكن إسلامنا لا يهون
إذا ما أرادوا لنا أن نميل عن النهج قلنا لهم مستحيل
لنا نهجنا من إله جليل وإنا به أبدًا مؤمنون
هو الدين عصمتنا في الحياه وليس لنا من سبيل سواه
نساوم، لا أيها الغاشمون نداهن، لا أيها المارقون
فإسلامنا نبضنا والعيون على رغم ما يمكرون
إلى الدين فالموت أولى بنا ولسنا نفرط في ديننا
إن الذين يتكسبون بالإسلام لا يستطيعون خدمته، والذين يركنون للظالمين سرعان ما يزيغون عن طريق الحق ثم ينضمون إلى فريق الضلال والنفاق ينافحون عن الفساد ويقبلون العيش الذليل في حمى الفاسقين والفاحشين، قال الله سبحانه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُۥ ۖ وَإِذًا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} آية 72 سورة الإسراء، وقال كذلك {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} آية 113 سورة هود.
بعد قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين في زمن جمال عبد الناصر يوم 6/9/1964، وبذلك تم تعطيل عمل كل مؤسسات الجماعة، تقول الحاجة المرحومة زينب الغزالي في كتابها البديع – أيام من حياتي-: “أخذ رجال المباحث والمخابرات الناصرية يطلبون مقابلتي ويعرضون عليّ عروضًا لإعادة المركز العام للسيدات المسلمات، وكانت هذه العروض تكلفني أن أشتري الدنيا بالآخرة، وعلى سبيل المثال عرضوا عليّ إصدار مجلة السيدات المسلمات بإسمي كرئيسة للتحرير وصاحبة الامتياز مقابل 300 جنيه شهريًا على ألا يكون لي شأن بما يكتب في المجلة، وكان جوابي: “مستحيل أن تصدر مجلة السيدات المسلمات من مكاتب المخابرات… “.
ما أكثرها الأمثلة التي تتحدث عن كبار سقطوا في شباك الإغراء المالي أو الاجتماعي، فكانت السقطة التي لا قيام بعدها. وما أكثرهم الذين ألقي لهم الطُعم فوقعوا في فخ الأعداء.
وما أجملها عبارة سفيان الثوري رحمه الله يوم راودوه على مواقفه فرفض المساومة، فبعثوا إليه من يحمل الذهب والدنانير راحت تلمع في يد حاملها ظنًا منهم أن لعاب سفيان سيسيل لمّا يراها، فكان جواب سفيان الثوري رحمه الله: “ليست كل الطيور تعلف فتأكل فتقع في الفخ”.
لن أتردد بالإشارة إلى مثال صارخ فيمن بدأوا بتنازلات قليلة صغيرة فانتهى بهم الأمر بالانحراف الخطير عن الطريق. إنهم الذين ارتضوا المشاركة في مهزلة ومسرحية انتخابات الكنيست الإسرائيلي بزعم خدمة أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل عبر وجود النواب لهم في الكنيست الصهيوني وانتهى بهم الأمر وهم يزيّنون لأنفسهم ويبررون في كل مرة أخطاءهم إلى أن أصبحوا جزءًا من ائتلاف حكومي يميني متطرف هو من يقوم اليوم على انتهاك المسجد الأقصى ومن يقتل أبناء شعبنا ومن يعلن الحرب السافرة على ديننا، بينما من ابتلعوا الطعم مستمرون بالانحناء والانحراف وقد أصبحوا يسمون المسجد الأقصى المبارك بأسمائه اليهودية المزعومة “جبل الهيكل” بل وصل بهم الأمر إلى حد الإعلان عن حق اليهود بالصلاة عند حائط البراق باعتباره وفق أقوالهم المنحرفة أنه “حائط مبكى اليهود”.
لا للطغاة أقولها فوق الصوامع في علن
لا لن أبالي بمن نفى وبمن بغى وبمن سجن
لا: من يقول بها والله أودعها المنن
لا: يا أحبة رددوا وذروا نعم فهي الفتن
فإلى الذين يظنون أن السلامة هي بأن تقول دائمًا وأبدًا نعم، لأنك إن قلت للطاغية لا فإنك بذلك ستستدعي بطشهم وظلمهم، وأنك بذلك تجلب على نفسك المشكلات والهموم إن هذا الفهم الأخرق لهو من نتاج انحراف البوصلة في بداية المسيرة والتي تصل إلى حد فلسفة هذا الانحراف وتنميقه وتزيينه بأسماء ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان. فقل للطغاة والظلمة أيًا كانت هويتهم السياسية والدينية والقومية، قل لهم لا وألف لا بل ومليون لا، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، وارفع رأسك فأنت مسلم.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون