الجمعة 13 مايو 2022 08:11 م بتوقيت القدس
تتفاوت آراء الباحثين في تحديد أسباب حالة التردي والذلّ والتبعية التي تعيشها أمتنا خلال وقبيل وعلى امتداد القرن الأخير والتي برزت بواقع الهزائم والانتكاسات العسكرية بدءًا من هزيمة الدولة العثمانية أمام أعدائها ثم سيطرة وتملّك أعدائها على مقدّراتها وتقسيمها بينهم وفق اتفاقية سايكس بيكو وما تبع ذلك من احتلال فلسطين وتهجير أهلها في العام 1948، حيث ذكرى تلك المأساة ستحل بعد غد الأحد 15/5 وما تبع ذلك هزيمة حزيران عام 1967 واحتلال القدس والأقصى الشريف والضفة الغربية وسيناء والجولان، ثم ما تبع ذلك من احتلال بيروت في العام 1982 ثم احتلال بغداد من قبل الأمريكان في العام 2003 وغير ذلك من أمثلة كثيرة.
فمن الباحثين والمتابعين من يردون ذلك إلى ضعف المقدّرات العسكرية والاقتصادية لأمتنا بينما يرى آخرون أن السبب في ذلك يرجع إلى ضعف الحالة المعنوية والهزيمة الروحية والنفسية والتي لن تجدي معها كل الإمكانات العسكرية إن توفرت، وأنا من أصحاب هذه القناعة وهذا التفسير لحقيقة ما كانت وما تزال عليه أمتنا خلال القرن الأخير، وهو ما يختلف تمامًا عمّا كانت عليه أمتنا في عهودها الأولى والتي ورغم وقوع انتكاسات وهزائم عسكرية لكنها لم تصل إلى حد الهزيمة النفسية والمعنوية وإلى حد الرعب، بل والاذدناب للأعداء، وإنما على العكس فإن الروح المعنوية والعزة الإيمانية سرعان ما كانت تعيد الأمور إلى نصابها.
لقد وقعت أول هزيمة بالمفهوم العسكري للمسلمين في معركة أحد وصلت إلى حد استشهاد سبعين من خيرة أصحاب رسول الله ﷺ بل إن آثار ذلك لحق به صلوات ربي وسلامه عليه بشج رأسه وكسر رباعيته وسيلان دمه الطاهر، لكن القرآن الكريم سرعان ما نزلت آياته بقول الله تعالى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 139 آية سورة آل عمران. ولأنهم كانوا مؤمنين حقًا وصدقًا رضي الله عنهم فإنهم وعوا الدرس جيدًا وأفاقوا من هزيمتهم العسكرية وتداركوها وظلوّا على إيمانهم وقناعتهم بأنهم الأعلون، فلم يهنوا ولم يحزنوا ولم تنكسر إرادتهم، بل سرعان ما عادت الموازين إلى ما كانت عليه وانتصر المسلمون فيما دارت بينهم وبين المشركين من معارك كان أبرزها فتح مكة ومردّ ذلك كله إلى أن أرواح المسلمين لم تذلّ ومعنوياتهم لم تنكسر.
وبعد قريب من 450 عامًا وتحديدًا في العام 1099 استيقظ المسلمون على وقع سنابك خيول الصليبيين تحتل أرضهم، بل تدنس قدسهم وأقصاهم. لقد أقام الصليبيون وطوال تسعين سنة دويلات وإمارات لهم داخل حدود الدولة الإسلامية، وكانت هذه الدويلات مثل الشوكة تؤذي كل من حولها، بل كانت تفرض هيمنتها على الإمارات الإسلامية المجاورة.
ليس أن المسلمين قد عادوا وانتصروا على الصليبيين وحسب، بل وطردوهم أذلة صاغرين بعد معركة حطين عام 1187 بل أحدثوا في نفوسهم عقدة نفسية ما زالت تلازمهم وكل ذلك بسبب أن المسلمين حتى وإن كانوا قد هزموا عسكريًا مع بداية الزحف والحملات الصليبية على الشرق الإسلامي إلا أن معنوياتهم وأرواحهم لم تهزم أبدًا وظلّوا يعيشون بقناعة وشعور أنهم الأعلون بإذن الله تعالى.
وبعد قريبًا من سبعين سنة من انتصار المسلمين على الصليبيين عام 1187 وإذا بضجيج وصخب ورعب زحوف المغول يصل إلى كل العالم الإسلامي وذلك بعد نجاح المغول باحتلال بغداد في العام 1258 وقتل مليونين من أهلها وتدميرها وتواصل زحفهم نحو بلاد الشام الأمر الذي أحدث في الأمة الإسلامية جرحًا عميقًا، لكن هذا الحال لم يطل وسرعان ما تجاوز المسلمين آثار فاجعة احتلال وتدمير بغداد عاصمة الحضارة يومها، وكان التحدي للمغول في سهل بيسان في فلسطين وتمريغ أنوف المغول في تراب سهل بيسان في العام 1260 ميلادي بعد أقل من عامين من هزيمتهم في بغداد، ويعود السبب في ذلك إلى أن المسلمين ورغم ما أصابهم في بغداد من بطش المغول إلا أن أرواحهم لم تذل ولم ينظروا إلى المغول نظرة إكبار بعد انتصارهم عليهم بل ظلّوا ينظرون إليهم أنهم برابرة متوحشون ومحتلون ولا بد من مواجهتهم بل والانتصار عليهم.
وهكذا ظلّت الأمة الإسلامية وعلى مدار تاريخها كله، ومع استمرار ارتفاع رسمها البياني وتسجيل انتصارات حاسمة في التاريخ، إلا أنها كانت تعيش فترة بين المرة والمرة وتعيش هزائم عسكرية هنا وهناك، لكن هذا الهزائم والانتكاسات سرعان ما كانت تتحول إلى انتصارات لاحقة لأن الحالة المعنوية والإيمانية والروحية كانت ما تزال تحلق عاليًا وكانت لا تقرّ بالهزيمة ولا بالذل ولا بالدونية لذلك العدو أيًا كان لونه أو جنسه أو دينه.
وإن أخوف ما يخافه أعداؤنا أن أمتنا وبرغم الفارق الهائل في الإمكانات والمقدّرات العسكرية بينها وبين أعدائها إلا أنها ما تزال تملك رصيدًا معنويًا هائلًا يمكنها بإذن الله من إعادة وضع النقاط على الحروف وإعادة رسم معالم المرحلة من جديد بما لا يتخيله أعداؤنا أو أن يخطر لهم على بال، ولقد برز هذا جليًا تحديدًا في النصف الثاني من القرن العشرين وصاعدًا عبر ظهور الصحوة الإسلامية العالمية التي لم تتوقف في اتساعها واندفاعتها رغم تعثّرها وقد برز ذلك في ثورات الربيع العربي رغم إجهاضها والانقلاب عليها من أنظمة الفساد والطغيان.
والقوم يخشون انتفاضة ديننا بعد الجمود وبعد نوم قرون
يخشون يعرب أن تجود بخالد وبكل سعد فاتح ميمون
يخشون إفريقيا تجود بطارق يخشون كرديًا كنور الدين
يخشون دين الله يرجع مصدرًا للفكر للتوجيه للتقنين.
النكبة والطبول الفارغة
يوم بعد غد الأحد 15/5/1948 هو اليوم الذي أعلن فيه دافيد بن غوريون في خطابه الشهير عن إقامة دولة إسرائيل بعد أن كان قد أوقع النكبة بشعبنا الفلسطيني وقد شرّد قريبًا من مليون من أهلنا ودمّر 539 قرية ومدينة، وارتكب المجازر والمذابح ليعلن بن غوريون إقامة إسرائيل على حساب نكبة وتشريد أصحاب الأرض والوطن.
لقد حظيت إسرائيل يومها بتوالي الاعترافات الدولية بها وخاصة من الدول الأوروبية، وفي مقدمة هؤلاء كان الاتحاد السوفيتي ثم الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان من دلالات ذلك محاولة أوروبا والغرب التكفير عن جرائمهم التي ارتكبوها عبر المجازر والمحارق التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا الوسطى ألمانيا وبولندا والنمسا وغيرها، حيث لم يكن لنا نحن الفلسطينيين والعرب والمسلمين ضلع في تلك الجرائم لكننا نحن من سدّد فاتورة تلك الجرائم عبر التآمر علينا واحتلال بلادنا بحماية وقوة وسلاح ودعم بريطانيا للعصابات الصهيونية التي ارتكبت الجرائم بحق شعبنا وأوقعت فيه النكبة، ولاحقًا دعم فرنسا بتمكين اسرائيل من امتلاك أسلحة نووية ثم الدور الأمريكي بالتعهد بالحفاظ بالتفوق العسكري الإسرائيلي على كل العرب والمسلمين.
لكن الذي ميّز تلك المرحلة وما سبقها وما تبعها من سنوات أن الأمة الإسلامية وزيادة على ضعفها العسكري فإن الضعف قد وصل إلى الحالة الروحية والمعنوية عند أبنائها وصل إلى حد أن من وصلوا إلى كراسي الحكم سواء بالوراثة “الأنظمة الملكية” أو من وصلوا بالانقلاب الدبابة “الأنظمة الجمهورية” وسواء كانوا ملوكًا أو رؤساء فإنهم قد أعلنوا الحرب السافرة على كل من انتمى للمشروع الإسلامي ومن خلاله حاول أن ينفث نبض الأمل والحياة من جديد للأمة.
كان الصوت العالي يومها للطبول الفارغة تردد صدى الشعارات الثورية والوطنية والقومية الفارغة من كل رصيد، لا بل إنها وزيادة على ضعفها فإنها حرّفت بوصلة الصراع من الصراع الديني بدأت مظاهره بالحرب على الخلافة الإسلامية والتآمر عليها وصولًا إلى احتلال القدس والمسجد الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيهم ﷺ. لقد حوّلت ذلك الصراع إلى صراع قومي بين العرب واسرائيل وما لبث أن تحول إلى صراع وطني بين الفلسطينيين واسرائيل، لا بل إنه وصل إلى حدّ أن يصبح صراعًا لفصيل فلسطيني هو حركه فتح بينما تم تحييد الكل الفلسطيني، وما لبث هذا الفصيل وعلى الأقل قيادته أن تحولت إلى ميليشيا تحقق وتخدم أهداف اسرائيل تحت لافتة برّاقة اسمها التنسيق الأمني وهي ليست إلا العمالة بأجلى صورها.
خيبة الخيبات
لم تقف خيبة شعبنا بالأنظمة الثورية والقومية والوطنية وشعاراتها البرّاقة ودويّ طبولها، لكن الخيبة الأكبر كانت عبر مشاهدة تشكيل ائتلاف حكومي اسرائيلي يميني مدعوم من حزب عربي ذو مسحة إسلامية في الكنيست هو حزب القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس.
لقد وصل الأمر بهذا الحزب إلى حد أن يرفع نوابه أصابعهم دعمًا لقرارات اتخذت بتمويل ودعم بميزانيات كبيرة لإحياء تراث بن غوريون والمركز المقام عند قبره في أرض النقب الفلسطينية، مع علمهم بأن بن غوريون هو من أوقع النكبة وهو من ارتكب المجازر بحق أبناء شعبنا باعتباره قائدًا في عصابات الموت ثم أول رئيس وزراء اسرائيل بعد إعلان قيامها واستمرار إيقاع النكبة حتى بعد قيام اسرائيل يوم 15/05/1948.
عودة الروح من جديد
رغم ما أصاب المسلمين يوم أحد، وما أصابهم من احتلال الصليبيين لبلادهم وفي مقدمتها القدس والمسجد الأقصى المبارك وتدمير التتار والمغول لبغداد عاصمة دولة خلافتهم وغير ذلك من مواقع كانت هزيمتهم العسكرية مؤلمة، إلا أنهم دائمًا ينهضون من كبوتهم ويقفون على أرجلهم منتصبين وما سبب ذلك إلا لاستمرار تأثير الروح المعنوية والحالة الإيمانية عليهم حيث كانت دائمًا هي السبب في عدم كسر إرادتهم وعدم ذلّهم وهوانهم على أعدائهم.
وإن مما يميّز هذه المرحلة من تاريخ أمتنا والتي ورغم قسوتها وصعوبتها واستمرار سطوة أعداء الأمة علينا، إلا أن كل عاقل ومراقب يتبين له وبسهولة أن روحًا جديدة تسري بين أبناء هذه الأمة، هذه الروح الجديدة مفعمة بالأمل والثقة بالله والتفاؤل بأن قادم الأيام سيحمل بشريات خير كثيرة بإذن الله تعالى. وفي مقابل هذه الروح المعنوية التي تسري في الأمة من جديد فإنها الروح المعنوية المتردية والهابطة والمأزومة التي يعيشها غيرنا وتحديدًا من أوقعوا النكبة بشعبنا قبل 74 سنة مستغلين الظروف الدولية والحالة المعنوية والمأزومة التي كان عليها شعبنا وكانت عليها أمتنا، وليس أدلّ على ذلك من مقولات ومواقف غاية في الوضوح من رموز في المشروع الصهيوني حيث باتوا لا يخفون قلقهم على مستقبل هذا المشروع الاستعماري بأنه في تراجع سريع بل لعله يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
فلقد قال كل من الصحفي المخضرم يارون لندن والصحفي العسكري المخضرم روني دانييل وقد توفي كليهما لاحقًا فقد قالا: “لنا توجد دولة لكن يبدو أن لأحفادنا لن تكون دولة. هذه الدولة “اسرائيل” التي شبهها الصحفي المخضرم روني بارنيع على لسان صديقه الطبيب الأمريكي بأنها “قصة قصيرة”. هذه الدولة التي قال عنها إيهود باراك رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق في مقالة له يوم 4/5/2022 عشية الذكرى الرابعة والسبعين لإقامة اسرائيل بأنها تعيش حالة الخوف والقلق من لعنة العقد الثامن أي خوف زوالها قبيل اكتمال عامها الثمانين مقارنًا إياها بما سبقها من كيانات يهودية في التاريخ القديم لم تعمر لأكثر من أربعين سنة.
إنه الفارق الكبير إذن بين الخوف والقلق من المستقبل وبين الأمل والتفاؤل والاستبشار بمستقبل واعد وغد مشرق ودورة جديدة من دورات الإسلام وعزّه ومجده، وحيث الروح المعنوية عند غيرنا تنحدر سريعًا نحو القاع، بينما الحالة المعنوية عندنا لم تذلّ ولن تنكسر وإنما رسمها البياني في صعود مستمر والحمد لله رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون