الجمعة 03 يونيو 2022 21:36 م بتوقيت القدس
تُلهم “التجربة الصينية” الكثير من الدول العربية التي تسعى للاستفادة منها للنهوض باقتصادياتها، وتحقيق قفزات تنموية، بالنظر إلى أن التنين الصيني تمكن من الخروج من مستنقع الحروب والمجاعة ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، خلال ثلاث عقود فقط.
فالصين التي لم يكن نصيبها من الناتج الإجمالي العالمي سوى 1.8 بالمئة في 1952، حققت قفوة نوعية بعد أن ارتفع هذا الرقم إلى 16 بالمئة في 2020، أي أن اقتصادها تضاعف قرابة 9 مرات خلال أقل من 7 عقود.
وأحد أسباب نجاح التجربة الصينية، أن البلاد تعلمت من أخطائها رغم أن الثمن كان مكلفا جدا، فبعد نجاح الحزب الشيوعي من السيطرة على الحكم وفرار الحكومة القومية إلى جزيرة تايوان في 1949، تبنت البلاد نظام الاقتصاد الاشتراكي، وانغلقت على نفسها، لتسقط سريعا أمام إحدى أعنف المجاعات الإنسانية في تاريخها.
فسياسة “الوثبة العظيمة إلى الأمام”، التي أطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في 1958، لتحويل البلاد من الزراعة إلى التصنيع، تحت شعار “ثلاثة أعوام من الكدح.. عشرة آلاف عام من السعادة”، تسببت في وقوع مجاعة كبيرة حصدت أرواح ما بين 15 و45 مليون نسمة، بين 1959 و1961.
لكن لم يكن ذلك الخطأ الوحيد الذي ارتكب في العهد الماوي، (نسبة إلى ماو تسي تونغ)، حيث أطلق ماو تسي تونغ، ما سمي بـ”الثورة الثقافية”، بهدف التخلص من معارضيه في الحزب الشيوعي واستئصال من أسماهم بـ”ممثلي البرجوازية”، في الفترة ما بين 1966 و1976.
وتسببت الثورة الثقافية في وصول الاقتصاد الصيني إلى حافة الانهيار، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 200 دولار فقط في العام.
وفي المرحلة بين 1949 و1979، دخلت الصين في ثلاث مواجهات مسلحة مع كل من الهند في 1962، وصدام حدودي مع الاتحاد السوفييتي في 1969 وحرب ضد فيتنام في 1979.
ورغم أن هذه الصدامات المسلحة كانت محدودة زمانيا ومكانيا ولم تصل إلى حرب شاملة طويلة الأمد، إلا أنها استنزفت جزءا من القدرات الاقتصادية للبلاد التي خرجت أصلا منهكة من الحرب العالمية الثانية (ضد اليابان) في 1945، ومن الحرب الأهلية بين القوميين والشيوعيين 1949.
هذه الأخطاء الثلاثة دفعت القادة الجدد للصين لمراجعة جذرية لسياستهم الاقتصادية والتنموية، خاصة بعد وفاة زعيم البلاد ماو تسي تونغ في 1976، وبداية مرحلة “الإصلاح والانفتاح” نهاية 1978.
تعلمت الصين من “الوثبة العظيمة إلى الأمام”، أن تتجنب تطوير اقتصادها عبر الصدمات، بل يتم الأمر بالتدريج حتى يألفه الشعب ويتقبل التغيير، دون اللجوء إلى “العنف الثوري”.
وفي هذا الصدد يشير البروفيسور الصيني في جامعة شنغهاي “دينغ لونغ”، إلى أن سياسة الانفتاح (على الاستثمار الأجنبي) “جرى تطبيقها، في بداية الأمر، في أربع مدن ساحلية فقط، ثم امتدت التجربة إلى 14 مدينة واقعة على سواحل البحار والأنهار، وفى نهاية المطاف، تم تطبيقها في جميع المناطق”.
أما “الثورة الثقافية” التي قال الرئيس الصيني تشي جين بينغ، إنها “دفعت اقتصاد الصين إلى حافة الانهيار”، فتم الانقلاب عليها تماما، من خلال الانفتاح على القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، بعدما كان الدولة تسيطر على الاقتصاد.
فتخلى الحزب الشيوعي الصيني عن الاشتراكية بالمفهوم السوفييتي، وتبنى النظام الاقتصادي الرأسمالي، في مفارقة غريبة، بررها الرئيس “دينغ شياو بنغ” مهندس الصين الحديثة بمقولته الشهيرة “قطة سوداء.. قطة بيضاء.. اللون لا يهم طالما يمكنها أن تمسك الفئران”.
بمعنى أنه “لا تناقض بين الشيوعية والرأسمالية”، بالرغم من أن الشيوعية، في أدبياتها، تقدم نفسها كبديل للرأسمالية.
لكن الحزب الشيوعي الصيني وصل إلى قناعة بأن الصراع الطبقي بين العمال الكادحين والبرجوازيين الرأسماليين سيدمر الاقتصاد، ولا بد من تجاوز هذه النقاشات الفلسفية والمرور إلى العمل.
وهذا التحول الاستراتيجي في السياسة الاقتصادية للصين، أدى إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية بشكل “هائل”، بالنظر إلى السوق الضخمة (نحو مليار نسمة في الثمانينات)، ورخص اليد العاملة، ما أدى إلى توطين كبريات الشركات العالمية لمصانعها في الصين وساعد ذلك على نقل التكنولوجيا وتأهيل اليد العاملة في الاقتصاد المعرفي.
كما أصبح القطاع الخاص يساهم بنحو 60 بالمئة من الاقتصاد الصيني، ولعب ذلك الدور الأبرز في تسريع نسب النمو في البلاد إلى نحو 10 بالمئة سنويا خلال ثلاثة عقود بداية من الثمانينات.
كما أن الصدامات المسلحة التي خاضتها الصين خلال الستينات والسبعينات خاصة ضد فيتنام، علمتها درسا مهما، أنك حتى وإن انتصرت في الحرب فسيضر ذلك بالاقتصاد، لذلك تتفادى الصين الدخول في حروب بما في ذلك “استعادة تايوان”، رغم سعيها لتحديث جيشها وتطوير أسلحتها.
ولم يمنعها ذلك من استعراض بعض القوة “المحدودة” في بحر الصين الجنوبي ضد فيتنام، أو من خلال اختراق أجواء تايوان.
فالصين تتبع سياسة “الصبر الاستراتيجي”، والتي مكنتها من استعادة هونغ كونغ من بريطانيا في 1997، دون إطلاق رصاصة واحدة، وقبلت بالإبقاء على النظام الرأسمالي بها، وفوق سياسية “بلد واحد.. ونظامان مختلفان”.
إلا أنها كانت صارمة ضد أي محاولة للانفتاح السياسي الداخلي، على غرار قمعها لمظاهرات الطلبة بساحة تيانانمن، في 1989، مع بداية انهيار الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا.
فالاستقرار بالداخل ومع الخارج “أولوية” صينية لازدهار اقتصادها وتجارتها مع العالم، حتى مع الدول التي تناصبها العداء وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تعد شريكها التجاري الأول، كما أن بكين لا تتورط في النزاعات بين الدول أو في صراعاتهم الداخلية، ما يتيح لها التقدم خطوة متقدمة على منافسيها الغربيين.
لا يمكن تطبيق التجربة الصينية على الدول العربية بحذافيرها، بالنظر إلى اختلافات عديدة وجوهرية في عدد كبير من الجوانب، خاصة من حيث عدد السكان والمساحة والموارد الطبيعية.. إلا أن هناك عدة تجارب يمكن الاستفادة منها.
أبرز هذه التجارب، قراءة الأخطاء بصورة موضوعية وامتلاك الشجاعة لتعديل السياسة التنموية ولو جذريا، ولكن بشكل تدريجي دون إحداث صَدمات.
ويشرف على التخطيط عادة المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يضم أفضل العقول والخبرات في البلاد، مع إمكانية الاستعانة بكفاءات بالخارج.
كما يشكل التعليم ركيزة لتنموية الموارد البشرية على المدى الطويل، حيث تنفق الحكومة الصينية بسخاء على التعليم والبحث العلمي والتطوير، وانعكس ذلك إيجابا على توفير يد عاملة كفؤة ومتخصصة للشركات المحلية، مكنها من المنافسة الدولية والتفوق في عدة مجالات كالاتصالات والذكاء الاصطناعي والتسوق الإلكتروني والطاقات المتجددة.
ولعب الاستثمار الأجنبي دورا بارزا في تسريع نمو الاقتصاد الصيني، من خلال ضخ مئات المليارات من الدولارات في السوق المحلية، وتوظيف اليد العاملة وتأهيلها ونقل التكنولوجيا، وإحلال منتجات الشركات الأجنبية محل الواردات، وفتح منصات لتصدير منتجاتها للخارج.
وأكسب ذلك الصين خبرات في التصنيع والتسويق والتصدير، وتمكنت من غزو عدة أسواق عالمية بفضل رُخص منتجاتها بالنظر إلى رخص اليد العاملة، ما منحها صفة تنافسية، خاصة في الأسواق الآسيوية والإفريقية الناشئة، التي يركز فيها الزبون على السعر قبل الجودة.
كما ساهم القطاع الخاص والشركات الصغيرة والمتوسطة في إنتاج مختلف المنتجات من الإبرة إلى الصناعات الميكانيكية والالكترونية، ورفع القيمة المضافة من خلال استغلال المواد الخام وتحويلها إلى منتجات مصنعة أو نصف مصنعة بدل تصديرها بشكلها الطبيعي.
وفي مرحلة من المراحل اعتمدت الصين على التقليد بشكل واسع، بل وتتهم بالجوسسة الاقتصادية وسرقة الملكية الفكرية لبعض المنتجات التكنولوجية المعقدة، والتنسيق حتى مع أعدائها (مثل إسرائيل) لنقل التكنولوجيا، وفتح أسواق خصومها الأمريكيين والأوروبيين.
ولم تنس الصين القطاع الاجتماعي حيث حاولت القضاء على الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية بين سكان المدن والأرياف.
وبعد ان انغلقت الصين لسنوات حول نفسها انفتحت على العالم وأصبحت من أكثر الدول المدافعة عن العولمة، ومبادرتها “الحزام والطريق”، أحد أشكال هذه العولمة التي تسعى لربط العالم بشبكة من خطوط التجارة الآمنة، وتقديم الدعم المالي للدول المشاركة في شكل منح وقروض واستثمارات، ما سيسمح للصين التحول إلى أكبر اقتصاد العالمي في عام 2030.
وتملك دول مثل السعودية والإمارات وقطر والكويت الموارد المالية لتطوير اقتصادها باقتحام المجالات الإلكترونية والمعرفية ذات القيمة المضافة العالية.
أما مصر فتملك سوق كبيرة (أكثر من 100 مليون نسمة) ويد عاملة مؤهلة ورخيصة ويمكنها جذب استثمارات أجنبية، وقوة عسكرية كبيرة، والمغرب منفتح على الاقتصاد العالمي، ويملك قاعدة صناعية يمكن تطويرها بجذب أكبر لرؤوس الأموال الأجنبية.
بينما تجتمع لدى الجزائر الموارد الطاقوية (النفط والغاز) واليد العاملة المؤهلة نسبيا (43 مليون نسمة) والقوة العسكرية، والاستقرار السياسي، ولا ينقص العراق من هذه العوامل سوى الحلقة الأخيرة، ما يؤهل البلدان ليصبحا قوتان إقليميتان في شمال إفريقيا والشرق الأوسط إن استغلا هذه العوامل مجتمعة في تطوير اقتصادهما.
إلا أن أكبر عائق تواجهه الدول العربية لاستنساخ التجربة الصينية صعوبة نقل التكنولوجيا، خاصة مع تشديد الدول المتطورة على حقوق الملكية الفكرية.
فالاستقرار السياسي، الذي تحميه قوة عسكرية رادعة، واقتصاد منفتح وجاذب للاستثمارات الأجنبية، ويعتمد على صناعات ذات قيمة مضافة عالية، وقطاع خاص شريك للدولة، وتعليم حديث ويتطور، ويد عاملة كثيفة ومؤهلة، وقدرة على كبح الفساد، ومكافحة الفقر، ونقل التكنولوجيا.. كلها عوامل تشكل معا التجربة الصينية التي يمكن للدول العربية أن تستفيد من الكثير من الجوانب المضيئة فيها.