الخميس 04 اغسطس 2022 19:37 م بتوقيت القدس
البعض كان يعتقد أن مقولة “إذا عطس الاقتصاد الأميركي ارتعدت فرائس الاقتصاد العالمي” قد ولّى زمانها، وأن الاقتصاد الأميركي بلغ درجة من الضعف لم تعد تسمح له بهذه السيطرة على مقدرات الاقتصاد العالمي، وبخاصة في ظل صعود الصين وحصولها على حصة كبيرة من الصادرات السلعية العالمية، وكونها أصبحت القوة الاقتصادية الثانية عالميا بعد أميركا.
نعم حصة أميركا في أداء بعض المؤشرات الاقتصادية تراجعت لصالح أوروبا والصين والدول الصاعدة الأخرى، ولكن بقيت أميركا تمسك بمفاصل النظامين النقدي والمالي العالمي منذ نهاية عام 1948، وترسخ لها هذا الأمر بعد تخليها عن قاعدة الذهب عام 1971، ثم اكتملت الدائرة بسيطرة العولمة الاقتصادية مطلع تسعينيات القرن العشرين.
وعلى الرغم من وجود قراءات تستنتج بزوغ تغيرات في خارطة القوى الاقتصادية العالمية حاليًا، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، فإنه من الملاحظ أنه كلما اتخذت أميركا قرارًا يخص قيمة عملتها أو سعر الفائدة، انعكس ذلك على اقتصادات العالم، سلبًا أو إيجابًا.
حالة من الإرباك سادت اقتصادات العالم على مدار الأيام الماضية بسبب السياسة النقدية التي أعلن عنها المجلس الفدرالي الأميركي، برفع سعر الفائدة يوم 27 يوليو/تموز 2022 بنحو 0.75%، ليصبح سعر الفائدة الاسترشادي السائد ما بين 1.5% و1.75%.
وستظل الاقتصادات العالمية حتى نهاية عام 2022 في حالة من الترقب تجاه قرارات الفدرالي الأميركي، بسبب التوجه المعلن عن عزم الفدرالي لاتخاذ قرارات مماثلة برفع سعر الفائدة، ليصل إلى ما بين 3% و3.5%، وثمة تقديرات تذهب إلى أن سعر الفائدة في أميركا ربما يبلغ 5% بنهاية عام 2022.
أتى قرار المجلس الفدرالي برفع سعر الفائدة عدة مرات منذ يناير/كانون الثاني 2022 ليتسق مع السياسة النقدية التقليدية في الفكر الرأسمالي، والتي تستخدم رفع سعر الفائدة كأدة لامتصاص التضخم، لترغب الأفراد في الادخار، وبالتالي يتراجع الطلب على السلع ويقل الاستهلاك، فتقل معدلات التضخم.
ويذكر أن معدل التضخم في أميركا بلغ 8.6% بنهاية مايو/أيار 2022، وثمة توقعت بأن يبلغ 8.8% بنهاية يونيو/حزيران 2022، وتعود هذه المعدلات المرتفعة لارتفاع أسعار الوقود في السوق الدولية وتراجع الدور الأميركي في تهدئة الأسعار في السوق الدولية للنفط، وبخاصة بعد أن رفضت “أوبك بلس” غير مرة مطلب الرئيس الأميركي جو بايدن زيادة الإنتاج لتهدأ الأسعار.
ومع هذا التوجه الأميركي برفع سعر الفائدة، اتجهت أوروبا في الأسبوع الأخير من يوليو/تموز 2022، عبر البنك المركزي الأوروبي للسياسة نفسها برفع سعر الفائدة ليبلغ 0.5%، بينما كانت ردة دول الخليج تالية مباشرة لقرار الفدرالي الأميركي يوم 27 يوليو/تموز 2022، إذ عمدت كل بنوك الخليج المركزية لرفع سعر الفائدة بالنسبة ذاتها التي أقرها الفدرالي الأميركي بنسبة 0.75%، باستثناء البنك المركزي الكويتي الذي رفع سعر الفائدة بنسبة 0.25% نظرًا لارتباط عملات الخليج بالدولار.
يشار إلى أن اليورو شهد المزيد من التراجع في قيمته أمام الدولار، في ظل سياسة رفع أميركا سعر الفائدة في سوقها المحلية، مما شجع الأفراد على التخلي عن اليورو والحصول على الدولار لأغراض الادخار أو الاستثمار، وهو ما يعرف بظاهرة الدولرة، وهي ظاهرة كانت قاصرة على أسواق الدول الصاعدة والنامية، ولكن مؤخرًا شملت أوروبا.
عانت الاقتصادات النامية والصاعدة من ارتفاع معدلات المديونية العامة بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وساعد على ذلك خلال العقود الثلاثة الماضية انخفاض سعر الفائدة، ولكن مع قرار المجلس الفدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة 0.75%، فإن ثمة واقعا جديدا سوف تعاني منه الدول التي توسعت في سياستها التمويلية بالديون.
وفي منطقتنا العربية هناك عدة دول لا يمكنها المضي في نشاطها الاقتصادي، وبخاصة المتعلق بالأداء الحكومي، دون اللجوء للديون الخارجية والمحلية معًا، ولكن المشكلة تبقى في تكلفة التمويل في ظل ارتفاع سعر الفائدة في السوق الدولية، وفي الوقت نفسه التصنيف الائتماني المتراجع لتلك الدول العربية، وبخاصة لبنان وتونس ومصر.
ولعل مصر كانت أكثر الدول تضررًا على مدى الأشهر الأولى من عام 2022، حيث خرجت نسبة كبيرة من الأموال الساخنة التي كانت تحتفظ بها مصر في أدوات الدين المحلي، مما أربك حسابات سعر الصرف للجنيه المصري، وكذلك أُرغم البنك المركزي المصري على زيادة سعر الفائدة بنحو 3% خلال مارس/آذار ومايو/أيار الماضيين، وقد يضطر المركزي المصري لزيادة سعر الفائدة المحلية مرة أخرى.
وتبقى مشكلة كل من مصر وتونس ولبنان في الحصول على قروض من السوق الدولية، إذ تخوض الدول الثلاث مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ولعل مصر هي الأقرب الآن للحصول على قرض من الصندوق، ولكنها تراهن بشكل أكبر بعد حصولها على قرض صندوق النقد على سوق السندات الدولية للحصول على قروض أخرى.
بيد أنها ستدفع سعر فائدة كبيرا، فآخر قروض مصر من سوق السندات كانت نسبة فائدته تتراوح بين 6.5% و7.5%، ويتوقع أن تزيد هذه النسبة إذا ما لجأت مصر خلال الشهور القادمة لسوق السندات، بسبب رفع سعر الفائدة في السوق الأميركية، وكذلك ضعف الوضع الائتماني بمصر، التي تُباع سنداتها الدولية في السوق بأقل من قيمتها بنحو 50%.
أما تونس فتعاني من وضع سياسي غير مستقر، وتحتاج لاقتراض نحو 6 مليارات دولار خلال عام 2022، ولكنها لم توفق في الحصول على تلك المبالغ بسبب أجندة صندوق النقد التي تشترط قبولها بتقليص مخصصات رواتب العاملين بالقطاع العام وكذلك تقليص فاتورة الدعم، وهي شروط صعب تطبيقها في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتراجعة، ولم تتمكن تونس من الحصول على تمويل إلا على قروض بسيطة من بعض الدول الخليجية.
وأما لبنان، فمفاوضاته مع صندوق النقد لا تزال متعثرة، ولكن على ما يبدو فالمخرج سيكون عبر توقيع اتفاقية مع إسرائيل لترسم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز الطبيعي، والمعلوم أن مجلس إدارة صندوق النقد تسيطر عليه كل من أميركا وأوروبا، ومن شأن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل أن تسهل حصول لبنان على قرض من صندوق النقد.
والجدير بالذكر أن لبنان يعاني مشكلات كبيرة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بسبب انهيار سعر عملته المحلية، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم بمعدلات كبيرة جدًا، فاقم منها، بالإضافة للعوامل المحلية، ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصاد العالمي بسبب أزمتي الطاقة والغذاء.
أزمات متكررة، عبر سنوات، معلوم ملامحها وكذلك تداعياتها، ومع ذلك تظل الحكومات العربية تقف في موقع المفعول به، ومن المنتظر أن تتحمل المزيد من الخسائر، ولم يتم التواصل لمعالجة جذرية لمثل هذه الأزمات الخارجية، سواء على صعيد إقليمي عربي أو على صعيد كل دولة على حدة.
منذ عام 1976 تأسس صندوق النقد العربي، ومن المفترض أنه يمارس دورا مماثلا لصندوق النقد الدولي في المحيط العربي، لكن تلك المؤسسة لا يسمع لها صوت في مثل هذه الأزمات، على الرغم من انتظام اجتماعاتها وحضور محافظي البنوك المركزية العربية تلك الاجتماعات.
لقد ضاع الأمل في وجود عملة عربية أو خليجية موحدة، أو سياسة نقدية عربية موحدة، أو حتى تبني سياسات آنية لتخفيف التداعيات السلبية للقرارات الأميركية أو غيرها على الصعيد الدولي، والتي تمس الواقع النقدي والمالي للدول العربية.
المشكلة التي ستعاني منها الاقتصادات العربية بسبب رفع سعر الفائدة بالسوق الأميركية، أن البنوك المركزية العربية مضطرة لرفع سعر الفائدة في أسواقها المحلية، وهو ما يؤدي إلى استمرار ارتفاع معدلات التضخم لتكاليف الإنتاج، وتراجع تنافسية المنتجات العربية محليًا ودوليًا بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج.