الجمعة 21 اكتوبر 2022 13:16 م بتوقيت القدس
ثلاثة أمراض تهدد مجتمعنا في الداخل الفلسطيني تهديدًا مصيريًا، ومع أنَّ كل مرض من هذه الأمراض هو مرض مُعد وسريع الانتشار، وهو مرض أخطر من السرطان وتوابعه والإيدز وتوابعه والكورونا وتوابعه، إلا أن كل هذه الأمراض رغم خطورتها المدمرة لها علاج جذري، له القدرة بعد التوكل على الله تعالى أن يقتلع كل هذه الأمراض الثلاثة من جذورها، والمطلوب أن نتعرف على هذه الأمراض الثلاثة، وأن نبحث عن علاجها، وأن تتقدم طليعة من مجتمعنا وتأخذ على عاتقها توفير هذا العلاج ثمَّ تقديمه لكل مجتمعنا بشرط أن تتحلى هذه الطليعة بالهمة العالية والنفس الطويل والأدب الجميل والتضحية بلا مقابل وألا تستعجل قطف الثمار، وألا تيأس من طول الطريق وقلة السالكين فيها، وهذه الأمراض الثلاثة هي كما يلي:
1- مرض الوهن وهو أخطرها: فمن الضروري أن نصارح أنفسنا وأن نعترف اعترافا مُرًّا أنه قد أصابنا مرض الوهن، وبتنا طوال الوقت نفرض على أنفسنا ظلمًا الشعور بقلة الحيلة والتصرف وفق هذا الشعور الانتحاري، وبتنا نشعر طوال الوقت أننا في طريق مسدود، وأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وبتنا نجدد العهد مع أمثلة الهزيمة التي كانت ولا تزال تقول لنا: (الكف لا يلاطم مخرز)، و (لا تحمل السلم بالعرض) و (امشي الزيق الزيق وقل يا رب الستيرة).
وهكذا بتنا نقف من قضايانا المصيرية موقف المتفرج، وفي بعض الأحيان وحتى نرضي ضمائرنا قد نكتب عن هذه القضايا المصيرية عبر الصحف ومواقع التواصل ولكن مع شديد الأسف نقف عند حد الكتابة فقط، وفي بعض الأحيان قد يتعدى بعضنا آفة الاكتفاء بالكتابة عن هذه القضايا المصيرية ويجتهد أن يقترح حلولًا لها، ولكن مع شديد الأسف يقف عند حد الاقتراح فقط.
ثمَّ إلى جانب ذلك، قد يلجأ البعض منَّا إلى إلقاء اللوم والاتهام في هذه القضايا المصيرية على البعض الآخر منا وينسى نفسه، وقد يتحمس البعض منا ويقوم بنشاط لمرة واحدة ساعيًا إلى المساهمة بحل هذه القضايا المصيرية، ولكن ومع شديد الأسف يعود ويغط في نومه كالآخرين. وهكذا تحولنا إلى مجتمع أنهكنا الفتور، وأنهكنا التنابز بالألقاب والتهم والتجريح، وأنهكنا التنافس في نحت الشعارات البراقة الكفيلة بتحرير الأندلس!! وأنهكنا القفز الموضعي ومقولة: (مكانك قف)، أو حتى (مكانك در) في مسيرة نضالنا المشروع، وأنهكنا التواصل الموسمي البارد مع قضايانا المصيرية، فبتنا نتواصل مع أرضنا مرة واحدة فقط كل عام في يوم الأرض، وبتنا نتواصل مع شهدائنا مرة واحدة فقط كل عام في يوم هبة القدس والأقصى، بل إن بعضنا كأنه بات يستثقل هذا الاسم الذي أقرَّته لجنة المتابعة في جلسة رسمية لها، وبات يطلق على هذا اليوم اسم (هبة أكتوبر)، وإلى جانب ذلك بتنا نتواصل مع حق العودة مرة واحدة فقط كل عام في يوم مسيرة العودة الذي تشرف عليه مشكورة جمعية المهجرين،… الخ.
وإلى جانب كل ما ذكرت أعلاه، بتنا نقوم بنشاطات نضالية تقليدية قد تكون مملة في بعض الأحيان، وقد يكون البعض منها قد أكل عليه الدهر وشرب، وقد يكون البعض منها مجرد صرخة في واد ليس إلا، وكأننا بتنا نقوم بهذه النشاطات النضالية حتى نقول لغيرنا: ها نحن نقوم بنشاطات نضالية، مع علمنا سلفا أنها وقياسًا إلى كل قضايانا المصيرية ما هي إلا كمن يحرث في البحر، وكمن يلقي بذوره على شارع معبد، وكمن ينفخ في رماد، وأرجو ألا نبقى على هذا الحال، وإلا سنصل إلى مرحلة يصدق فيها أن يقال عنا: قد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.
2- مرض الفجور في التبذير والاستهلاك والبذخ والإقبال الأعمى الجموح المضبوع على الدنيا: فهو مرض يكاد أن يصيبنا في مقتل، ولا يملك أحدنا أن ينكره، وهو مرض بات يهدد قيمنا وثوابتنا وهويتنا، وبات يهدد انتماء الفرد منا، وسكينة الأسرة، وتماسك المجتمع، وحرقة الهمّ العام، وبات يدفعنا نحو التشرذم واللامبالاة وبات الشخص منَّا أكثر من شخص، فهو شخص إذا قال، وهو شخص آخر إذا عمل، وباتت الأسرة منا أكثر من أسرة تحت سقف البيت الواحد، وبات مجتمعنا شظايا، أنهكته الأنانية المجنونة، والتناحر الحزبي، والمصالح الفردية المنفلتة، وبتنا نتباهى بسلوكيات بلهاء مدمرة، لدرجة أن بعض الأسر باتت لا تتردد أن تستقرض من السوق السوداء حتى تسافر (شمة هوا) إلى إحدى دول العالم الأخرى، أو حتى تقيم حفلًا كبيرًا لميلاد ابنها الغالي أو ابنتها المدللة، أو حتى تُجدد عفش بيتها وتقتني آخر صرخة في عالم (الطقوم المغربية) أو (الطقوم التركية)… الخ، أو حتى تهجر سيارتها القديمة وتشتري سيارة (من الشركة) كما يقال!! مما دفع الكثير منَّا أن يتجاهل ميزان الحلال والحرام، فكل شيء بات حلالًا في ميزانه ما دام يوافق دنياه وهواه ونفسه الأمارة بالانزلاق في المطعم والمشرب والملبس والمسكن!! وكأن هذا الانزلاق الذي دفع الكثير منا أن يسير مكبًا على وجهه قد بات مشروعًا لا غبار عليه، حتى لو صادم ذروة سنام ثوابتنا، لدرجة أن البعض منا- وهم ندرة نادرة بحمد الله تعالى- باتوا يدعون إلى الشذوذ الجنسي وإلى إباحة الزنا والتحول من جنس إلى آخر، مما جعل المروءة العروبية والنخوة الفلسطينية أن تضج من قحف قلبها، أسفا على هؤلاء الندرة الذين طعنوها في خاصرتها.
وهكذا تراكم الانفلات وتفاقم التسيب!! وبتنا في سوء حال يصدق فيه قول القائل: (على نفسها جنت براقش)!! ومن زرع شوكًا هل يجني إلا شوكًا، ومن زرع قنديلًا هل يجني إلا قنديلًا، فكيف سيكون حال من زرع مرض الفجور في الإقبال على الدنيا؟! ماذا سيحصد؟! وهل سيحصد إلا ما نحن فيه اليوم من مأزق خانق بات كحبل الإعدام يلتف على عنق الفرد منا، وعلى عنق الأسرة منا، وعلى عنق مجتمعنا، وإن كابر من كابر!!
3- مرض العنف وتوابعه: فهو مرض فتاك ثالث، وهو تحصيل حاصل بعد أن أصابنا المرض الأول وهو مرض الوهن، وبعد أن أصابنا المرض الثاني وهو مرض الفجور في الإقبال على الدنيا!! بل لا يخطئ من يقول إن مرض العنف ليس مرضًا قائما بذاته، بل هو أعراض للمرض الأول والثاني اللَّذين استفحلا فينا!! وهكذا وجدنا مجتمعنا قد غرق في حمأة السوق السوداء والربا الأسود والخاوة وفوضى السلاح والممنوعات المدمرة!! وهكذا بتنا نصبح على ضحية ونمسي على ضحية أخرى!! وهكذا بات العنف وتوابعه يتجول فينا ويتصيد ضحاياه من بيننا تارة في الجليل، وتارة في المثلث، وتارة في النقب، وتارة في المدن الساحلية (عكا وحيفا ويافا واللد والرملة)، وهكذا باض العنف فينا وفقس، وأصبحنا نسمع عن مصطلحات السنجير ورؤساء الإجرام ومساحات النفوذ بينهم.
4- مع ضراوة هذه الأمراض الثلاثة، ومع بؤس الحال الذي وصلنا إليه، هناك علاج، ولا أتردد أن أقول إذا وجدنا العون من كل شرائح مجتمعنا- كبارا وصغارا، ورجالا ونساء- بعد توكلنا على الله تعالى، ثم إذا نجحنا بإقامة لجان إفشاء السلام المحلية والنسائية والشبابية والطلابية في كل بلدة من بلداتنا، وإذا نجحنا بتنفيذ كل استراتيجية عمل لجان إفشاء السلام التي تقوم على الخطوة الوقائية والخطوة العلاجية وخطوة الردع، فإننا- بإذن الله تعالى- سننجح بمواجهة العنف وتوابعه وحصره في أضيق دائرة، عسانا أن نقتلعه بعد ذلك من جذوره.