الجمعة 03 مارس 2023 13:58 م بتوقيت القدس
عشت طفولتي في بيت كان وحيدًا في حاكورة من حواكير بلدتي أم-الفحم حيث كان بعيدا نسبيا عن نواة أم-الفحم الأولى وكانت تحيط به أودية وسهول وهضاب خلابة ذات بهجة تسر الناظرين، وكان أبي- رحمه الله تعالى- قد حرص أن يزرع كل أنواع الثمار في أرضنا الصغيرة التي كانت تلتف حول بيتنا كالتفاف العقد حول العنق، فكانت أشجار الجرنك والمشمش واللوز والتفاح والإجاص والبرتقال والتين والرمان، وكانت تظلل مدخل بيتنا كرمة عنب دانية الثمار، وعلى حدود أرضنا الصغيرة كانت تنتصب شامخة سلسلة خضراء من أشجار السرو ذات الأطوال المتفاوتة، ولذلك أطلقنا على إحداها (السروة الكبيرة) نظرا لطولها الفاره، وأطلقنا على الأقصر طولا (السروة الصغيرة)، ومضت سنوات كان الطريق الذي يوصل الى بيتنا ترابيا، وكنَّا نستمتع بعد عصر كل يوم بعودة أغنام جارنا أبو علي من المرعى، فكنَّا نطلق عليها (غنمات أبو علي)، وكنا ننشد لها عندما تعود ونقول: (جين غنمات أبو علي جين…). وعلى بعد عشرات الأمتار كان هناك (طابون) يقع غرب بيتنا وكنَّا نسمّيه (طابون ستي شريفة) وكان طوال الوقت يبعث لنا الدخان الممزوج برائحة خبز الطابون، وبرائحة (الملتيت) أحيانا، أو برائحة كعك العيد أحيانا أخرى، وكانت تقع على حدود بيتنا شمالا حاكورة جرنك على مد البصر، وكنّا نسمّيها (حاكورة سيدي ابراهيم)، وأمَّا على الحد الغربي والجنوبي من بيتنا فكانت تمتد تجمعات متفرقة للصبر (الصّبّار) وحواكير زيتون ولوز يتخللها بعض البيوت الصغيرة المتواضعة.
ثمَّ بعد هذه البيوت المتناثرة كالدر المنثور كانت تمتد بلدتنا أم-الفحم بحاراتها الأربع المحاجنة والمحاميد والجبارين والاغبارية. هكذا كانت بداية إلمامي بالجغرافيا المحكية التي نشأت فيها وحولها، ثمَّ عرفت بعد ذلك أنه يقع خلف (حاكورة سيدي ابراهيم)، (حاكورة التين) التي كانت تضمّ عشرات أشجار التين ولا تضم غيرها، وخلفها كان يقع (النصب) الذي كان سهلا مستويا انتصبت في رحابه مئات أشجار الزيتون الرومية القديمة، وخلفها كانت تمتد (حاكورة سيدي سليمان)، (وحاكورة أبو غزال)، وما بين هاتين الحاكورتين كان يمتد شارع (المرمالة) الضيق الذي كان عرضه يتسع لموطئ قدمين فقط، ثمَّ خلف (النصب)، كان جبل (الباطن) ينتصب شامخا طوال الوقت وكانه الحارس الأمين لبلدتي (أم-الفحم).
ثمّ عرفت مع مرور الأيام أن أرضا واسعة تقع خلف (طابون ستي شريفة) تدعى (البيادر) ولعلها كانت أكبر تجمع للصبر (الصّبّار) في بلدتي أم-الفحم وكانت أكواز صبرها الشهية التي كانت بعشرات الآلاف ملكا عاما للجميع، لا يباع ولا يشترى، بل هي لمن رغب، ثمَّ خلف (البيادر) كانت تقع (حواكير الزيتون) ثمّ (حاكورة اللوز) ثمّ (راس-الهيش)، وفي مقدمة (راس-الهيش) كانت هناك علامة حدود قد نصبتها المؤسسة الإسرائيلية، فكنّا نظنّ في طفولتنا أنّها صنم وضعه الكفار، وأنهم كانوا يتسللون سرًا لعبادة ذاك الصنم، فكنّا نذهب بين الحين والآخر، بهمّة عالية لهدم ذاك الصنم، وهكذا بدأت تتسع مدارك إلمامي بالجغرافيا المحكية في بلدتي أم-الفحم، ثم عرفت بعد سنوات أن الجغرافيا المحكية في بلدتي أوسع من ذلك، فهناك مئات المواقع ذات الأسماء المميزة المعروفة المتداولة، في كل حارة من حارات بلدتي أم-الفحم، وكانت تلك الأسماء هي أسماء علم لسهولها وهضابها وأوديتها وحواكيرها وسناسلها الحجرية ومرتفعاتها الترابية ومنعرجات طرقها وعيون مياهها الجارية بلا انقطاع، ولم تترك تلك الأسماء موقعا من بلدتي أم-الفحم إلا وثّقته ودلّت عليه، وهذا يعني أنها كانت عبارة عن الجغرافيا المحكية كلها عن أم-الفحم، دون أن تغفل عن شبر أرض منها أو حفنة تراب أو قطرة ماء أو شجرة أو شجيرة أو عشبة أو زهرة.
وهكذا بدأت تتسع أكناف الجغرافيا المحكية لبلدتي أم-الفحم وضواحيها في ذاكرتي، وبدأت أحفظ أسماء قد تكون غريبة، ولكنها تحمل كنزا من الدلالات التي تؤكد لكل أهل الدنيا، أنَّ لهذه الأرض نحن ونحن أهلها، ونحن ملحها وأنفاسها ولغتها، وأن لهذه الأرض نحن ونحن جذورها وعنوانها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، وما كنّا يوما من الأيام عابري سبيل في أرضنا المباركة. بل على هذه الأرض المباركة صنعنا حياتنا، وبنينا بيوتنا ومقدساتنا، ومعالم مدنيتنا ونهضتنا المتكاملة، فإلى جانب المسجد أو الكنيسة أو الخلوة بنينا المدرسة والمركز الصحي ومخازن الحبوب وطوابين الخبز وبيادر القمح ومحطات السيارات، ثم كانت ولا تزال تنمو هذه الأصول حتى الآن. ولذلك بدأت أتعرف على أسماء جديدة من الجغرافيا المحكية وأزورها، وباتت كنزا مشعا حيا في ذاكرتي ووجداني وانتمائي، فهناك في أكناف أم-الفحم (خلة-الجلبيط) و(حجر فارة) و(الجبل-الصغير) و (حاكورة أبو زعيم) و(الحجر الأحمر) و(خلة الحمارة) و(اسكندر) و(البير) و(العيون)، و(الظهر)، و(الشرايع) و(عين-خالد)، و(الميدان) و(البحرة) و(أم-الدب) و(جبل إسكندر).
و(المقطم) و(عين-جرار) و(عين-التينة) و(عين-إبراهيم) و(عين-الوسطى) و(الست خيزران) و (العرايش) و(المعلقة) و(عقادة) و(عراق الشباب) و(البيار) و(خلة الخشب) و(المرتفعة)… والقائمة طويلة وطويلة جدا، لا بل تحت سقف كل اسم من هذه الأسماء هناك عشرات الأسماء التي تفصّل رسم جغرافيته المحكية فهل هناك إمكانية أن نتدارك هذه الجغرافيا المحكية قبل أن تضيع!! ولأنها محكية فهذا يعني أنه كلّما مات شاهد لها، فإنّ جزءا منها يموت، وكلما مات جيل منّا فإن كنزا ثمينا منها يطويه تراب النسيان. فهل لنا أن نتفطن لهذا الواجب الذي لا يزال هناك أمل أن نقوم به بعد أن أهملناه عشرات السنوات؟! تصوروا لو أنّ كل سلطة محلية عربية قامت برسم خارطة مفصّلة توثّق الجغرافيا المحكية لأرضها وجذورها التي نشأت فيها قبل نكبة فلسطين، وقبل أن يطمع بها غول المصادرة!! وهذا أمر ممكن وليس مستحيلا!!
ثمَّ تصوروا لو أنّ (جمعية المهجّرين) التي تضم عشرات الممثلين للقرى المهجرة، تصوّروا لو أنَّ كل عضو فيها قام مع نخبة من قريته المهجرة برسم خارطة مفصلة توثق الجغرافيا المحكية بشاردها وواردها التي كانت عليها هذه القرية المهجرة أو تلك!! وهذا أمر ممكن وليس مستحيلا!! ثمَّ تصوّروا لو أنّ أهلنا في المدن الساحلية والنقب قاموا برسم هذه الخرائط المفصّلة التي تحفظ لنا ولأجيالنا القادمة الجغرافية المحكية التي نشأنا فيها (أي المدن الساحلية والنقب). لو قمنا بذلك لأسدينا لأنفسنا ولكل أنصار العدالة في العالم خدمة لا تُثمّن، فيكفي أن نحافظ بواسطة هذا العمل على الشاهد حيا، الذي يشهد بلا تلعثم أنَّ أرضنا ما كانت مشاعا في يوم من الأيام، وأننا نحن أهلها كنّا ولا زلنا أحياء!! ثمَّ بدافع التوثيق العلمي أؤكد أنَّ صاحب فكرة الجغرافيا المحكية لست أنا، بل صاحبها هو المرحوم د. كمال الفحماوي الذي كان محاضرا في علم الجغرافيا في جامعة بير-الزيت، فأرجو من الجميع إهداءه ثواب قراءة سورة الفاتحة.