الجمعة 07 ابريل 2023 14:02 م بتوقيت القدس
(أبو اليتامى) هو الاسم الذي أطلقه المرحوم أبو أحمد كساب على بلدة اللجون المهجرة خلال لقاء إعلامي مصوّر أجراه معه المخرج هاشم خطيب من بلدة برطعة، وكان ذلك في أواخر الثمانينيات، وقد اختار المرحوم أبو أحمد هذا الاسم للّجون عن سبق إصرار، إذ كانت بلدة اللّجون كثيرة الخيرات، صيفا وشتاء، وكانت مصدر رزق لأهلها ولضيوفها الذين كانوا يجتمعون فيها قادمين من الكثير من البلدات الفلسطينية- قبل النكبة- بهدف إعالة عائلاتهم وكفالة ايتامهم من خيرات اللجون. وأستطيع أن أقول بقناعة بعد تجوالي في الكثير من البلدات الفلسطينية المهجرة أنَّ هذا الاسم يصلح وصفا لكل أرضنا المباركة على صعيد بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فهي (أبو اليتامى) على مدار أيام كل عام، فما من بلدة فلسطينية مهجّرة زرتها، صيفا أو شتاء، إلا ووجدت فيها الأرزاق الكثيرة التي تجود بها جبال وأغوار وسهول وجداول أرضنا المباركة، والتي تصلح طعاما حلالا بالمجان لكل من بحث عنها، وما عليه إلا أن يتعرف عليها، وسيجد فيها سلّة غذائه ودوائه الدائمة ولمن يعول من ذريته، ففي الصيف هناك أكواز الصبر (الصّبّار) التي تنتشر بالملايين في كل بقعة من أرضنا المباركة، وهناك نبته (الفرفحينة) البرّية التي تكسو الآلاف من سهولنا المباركة صيفا، وهناك التّين والرّمان والبلوط العقبي والزعرور واللوز التي لا تزال صامدة ومثمرة في أكناف كل بلداتنا الفلسطينية، وكل هذه الثّمار تصلح أن تكون غذاء ودواء، وتصلح أن تكون سلعة تجارية قابلة أن تدر الأرباح الصافية على كل من عرضها للبيع في أسواقنا، وإلى جانب ذلك هناك خلايا النحل البرية المنتجة للعسل التي تجود بأصفى وانقى وأطيب عسل عرفته الأرض، والتي قد يجدها أهل الخبرة منّا في جذوع الزيتون الجوفاء، وفي الكهوف المهجورة وفي رجوم الحجارة البعيدة عن أعين الناس، ولا زلت أذكر في فتوتي عندما أرشدت أنا وأصحابي أحد الأهل إلى خلية نحل منها كانت في أرض تدعى (جورة المغارة) في سفوح الباطن أحد جبال أم- الفحم المشهورة، فاقترب من خلية النحل تلك، ونجح بجمع ما فيها من عسل.
وأمّا في الشتاء، فإن أرضنا المباركة تجود بمئات أصناف النباتات التي لا نعرف عنها إلا القليل، والتي تنتشر في كل مكان لدرجة أننا قد نجد بعضها في محيط بيوتنا والتي تصلح أن تكون غذاء أو دواء أو شرابا منعشا يرد الروح، والتي تصلح أن تكون تجارة رابحة رأس مالها معرفة الأرض، ومعرفة هذه النباتات البرية، ومعرفة مواقع نموها، ومعرفة طرق استعمالها، ومن أشهر هذه النباتات البرية الفقع (الفطر) أو كما يسمّيه أهل الجليل (الفطاريش)، وهو نبات طيب الطعم وسهل الاعداد، وأنا أعرف بعض البيوت من بين أهلنا في الجليل يعتاشون على بيع الفقع (الفطر) وهناك بعض أهلنا في النقب يعتاشون على بيع الكمأة وهو الفقع (الفطر) الذي ينمو تحت سطح الأرض ويشبه حبّة البطاطا وهو ثمين السعر، وقد يصل ثمن الكمأة الواحدة منه في أوروبا عشرة آلاف يورو، وإلى جانب ذلك هناك سلة غذاء ودواء في الشتاء تضم النعناع البري والعلت (الهندباء) والحميض والعكوب والحويرة والهليون واللسينة والزعمطوط والعوينة والحماصيص والكلخ.. والقائمة طويلة جدا. وإلى جانب ذلك هناك شواطئ البحر المتوسط، وشواطئ بحيرة طبريا، وضفاف الأنهار والجداول دائمة الجريان على مدار أيام السنة، وكل هذه المواقع المائية تُوفّر عشرات أصناف الأسماك، التي لا تنقطع على مدار أيام السنة. والمظلوم في هذه الأصناف هو سمك (أبو الشوارب) ويطلق عليه اسم (السلور) وهو موجود في كافة جداول المياه دائمة الجريان، وهناك الكثير من الأهل ينفرون منه بسبب مظهر رأسه إلا أنه طيب الطعم، وقد يصل وزن السمكة الواحدة منه خمسين كغم، وما اسهل صيده لمن رغب باصطياده، وهو مصدر بروتين بالمجان متوفر بأعداد هائلة على امتداد أرضنا المباركة. وإلى جانب ذلك هناك قائمة من الحيوانات والطيور الجائز صيدها والتي تصلح أن تكون طعاما أو تجارة.
لذلك أؤكد بناء على ما ذكرت في السطور السابقة أنه لا يمكن لأحدنا أن يموت جوعا في أرضنا المباركة، ولا يمكن له أن يفقر أو يعرى فيها، أو أن يعيش مشردا بلا مسكن، والمطلوب هو حسن التواصل مع أرضنا المباركة، وحسن استثمار كنوزها النباتية والسمكية والحيوانية والمائية، وضرورة التعرف على هذا العالم الواسع الذي لا حدود له، ولو اتقنَّا ذلك لتعرفنا على أرضنا كما يجب أن نتعرف عليها، ولأقمنا فيها أعمدة لحاضرنا ولمستقبلنا ليست قائمة اليوم، ولاستنبتنا البركة من كل ذرة تراب فيها، ومن كل جذر نبته فيها، ومن كل قطرة مياه فيها، ولكثرت مبادراتنا الواعدة على قاعدة (القرش الأبيض بنفع لليوم الأسود)، فقد تكون قيمة هذه المبادرات قروشا، ولكنها ستنفع في اليوم الأسود، ولأضرب على ذلك أمثلة وأقول متوكلا على الله تعالى:
1- تصوروا لو أنَّ بعضنا بادر إلى حفر بئر ماء في أرضه أو في محيط بيته، واستعان بأهل الخبرة، وغدا هذا البئر صالحا لتجميع ماء الشتاء فيه، ومزودا بأدوات تجعل منه صالحا للشرب، لو قام بعضنا بذلك لكان في هذه المبادرة كل الخير لمجتمعنا، وسنحتاج إليها إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، فهي الأيام حبالى بالمفاجآت.
2- تصوروا لو أننا استثمرنا ما تحمل أرضنا من أزهار النباتات وأزهار الأشجار خير استثمار، وقام الآلاف منّا بتربية خلايا النحل المنتج للعسل، لو قمنا بذلك لتوفرت بين أيدينا ثروة اقتصادية طيبة، فهذه أزهار القدس المباركة وما حولها، وهذه أزهار النقب، وأزهار بيارات يافا، وأزهار البلدات الفلسطينية المهجّرة، وأزهار سهول المثلث، وأزهار جبال الروحة والكرمل والجرمق، وأزهار البطوف والشاغور، توفر لنا الإمكانية الفورية لإقامة عشرات آلاف المبادرات لتربية خلايا النحل المنتج للعسل، لو قمنا بذلك لملكنا قوة غذائية تنفع في اليوم الأبيض والأسود.
3- تصوروا لو أعدنا مرة ثانية إلى حياتنا اليوم (الطابون الفلسطيني) بالآلاف، وبدأنا نخبز بأيدينا على نار حطب أرضنا المباركة، وتصوروا لو أعدنا مرة ثانية (الخم الفلسطيني) ولعلها كلمة باتت غريبة غير مفهومة عند أجيالنا الفتية، ولذلك أقول: (الخم الفلسطيني) هو القن الذي كنَّا نربي فيه الدجاج البلدي، ونأكل من بيضه ومن لحمه، ولعل البعض منّا يستخف بذلك، ولكن قد لا نجد عن هذه المبادرات بديلا في قادمات الأيام.
4- تصوروا لو بدأنا نعتمد متوكلين على الله تعالى على شبكات الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء كما هو حال الكثير من أهلنا في النقب، لكان في ذلك الخير الكثير.
5- هي مجرد أمثلة، ولعل هناك اقتراحات لمبادرات أكثر وأهم مما ذكرت في مقالتي، ولعل البعض منّا أنجز البعض منها، وفي ذلك خير والمطموع به أن يزداد هذا الخير.
نعم هي أرضنا المباركة وهي (أبو اليتامى)، والتي من أخلص لها ولماهية بركتها لا يضل ولا يشقى، ولا يجوع ولا يعرى.