ها نحن في الثلث الأخير من شهر رمضان لا بل إننا في الأسبوع الأخير منه. ومثل ما انقضى وانطوى ثلثاه وأسابيعه الثلاثة، فما أسرع أن تنقضي وتنطوي ما بقيت من أيامه. وإذا كنا قبيل رمضان ندعو الله جل جلاله أن يبلّغنا رمضان، فإننا وبعد أيام سندعو الله جل جلاله أن يتقبل منا رمضان وما أدينا فيه من طاعة وعبادة وقربات لله عز وجل.
ومع ما تبقى من أيام رمضان ومن الثلث الأخير فيه، ثلث العتق من النار، فما أجمل أن يراجع كل منا نفسه ويحاسب ذاته ويجري جرد حساب دقيق وصارم “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم”، فاسأل نفسك:
هل كانت علاقتك مع الله وقربك إليه سبحانه أفضل وخيرًا مما كانت قبل رمضان؟
هل جعلت رمضان 1444/ 2023، محطة فاصلة في حياتك وبداية مرحلة جديدة؟
هل ستحافظ على صلتك بالقرآن الكريم وقراءتك له بعد رمضان كما كنت في رمضان؟
هل كانت لك جولة ناجحة انتصرت فيها على نفسك، فوصلت من قطعك وسامحت من ظلمك وأحسنت إلى من أساء إليك؟
هل كانت لك في رمضان صدقه سر لم يعلم بها أحد إلا الله سبحانه، أردت بها أن تنال منزلة الجلوس تحت ظل عرش الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله؟
هل عزمت أن تجعل لحياتك طعمًا جديدًا ومسارًا جديدًا بأن جعلت من نفسك وقفًا خالصًا لدين الإسلام، وسهمًا في جعبة الإسلام بعد أن كانت تنازعك الأهواء، فقلت لنفسك كفى فمن اليوم ومن رمضان هذا {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية 162 سورة الأنعام.
المستقبل وحزمة الحشيش
كم من الناس ممن نعرفهم، بل إنهم من الأصدقاء ومن ذوي القربى ممن صاموا معنا رمضان في العام الماضي ورحلوا عنا قبل أن يدركوا رمضان هذا فلم يصوموه، بل كم هم الذين كانوا مقصّرين ومفرّطين فإذا ذُكّروا قالوا: إن شاء الله في رمضان القادم سنتوب ونصطلح مع الله ونؤدي صلاتنا ونصوم رمضان، فلما جاء رمضان كانوا هم تحت أطباق الثرى. وكم هم الذين ولعلّ أيًا منا قد يكون من الذين سيرحلون من هذه الدنيا ولن يدركوا رمضان القادم، ليكون رمضان الذي نعيشه ونطوي أيامه هو رمضان الأخير قد أدركوه في حياتهم هذه أو أدركناه نحن في حياتنا.
إنه بريق الدنيا يخطف أبصارنا ويشدنا، بل يجذبنا إليه في حالة مغناطيسية مجنونة رغم أنه بريق زائف ولمعان خادع وسراب، كلما ظننا أننا وصلنا إلى ما نظنه ماء لم نجد شيئًا فنزداد عطشًا، ولا نلبث أن نعود نجري خلفه وهو يتراءى لنا من بعيد {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} آية 39 سورة النور.
وما أجمل ما شبّه به المرحوم الشيخ علي الطنطاوي أمثال هؤلاء بأنه مثل رجل يركب فرسًا ويحمل بيده عصًا طويلة ربط على رأسها حزمة حشيش مدّها أمام رأس الفرس التي تحاول أن تنال من حزمة الحشيش، فبينما الفرس تجري وحزمة الحشيش تجري فلن تدركها مهما طالت الأيام وامتدت المسيرة.
فإياك أن ينقضي عمرك وأنت تجري خلف سراب الدنيا وبريقها وزخارفها، لأنك عند ذلك ستدرك، ولكن متأخرًا وبعد فوات الأوان، أنها خدعتك وغرّتك {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. وما أجمل ما قاله الحسن البصري: “يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك”.
الرصيد الفاني والرصيد الباقي
كثير منا، بل لعلّنا كلنا إذا أردنا أن نشكر أحدًا على صنيعه فإننا ندعو له بطول العمر، والبعض يدعو بعمر محدد بالسنوات يقلد به غير المسلمين لما يقول “حتى 120″، وما علمنا أنه كلما طال العمر وامتدت الأيام فإنها ستصبح حجة علينا عند الله سبحانه، وهذا ما يغيب عن بال الكثيرين وقد قال رسول الله ﷺ: “من عمّر من أمتي سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر”، حيث هذا العمر سيسأل عنه يوم القيامة كما قال ﷺ في الحديث عن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة فكان منها “وعن عمره فيما أفناه”.
نعم إن طول العمر حجّة عليك، بل إن الله سيعيّرك به يوم القيامة، فنعوذ بالله من هذا {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} آية 37 سورة فاطر.
إذا كنت في كل يوم أو شهر تقتطع من معاشك مبلغًا من المال وتضعه في حسابك البنكي، فتفرح وأنت ترى الرصيد يزداد ويكبر مع علمك أن هذا الرصيد فانٍ لأنه مهما كبر فلن تأخذ منه ولو فلسًا وسيبقى خلفك، فأين هذا السرور من سرورك يوم القيامة برصيد من الأعمال الصالحة إذا كنت في كل يوم تزيد هذا الرصيد استعدادًا لذلك اليوم. قال ﷺ: “ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: نعم، قال: خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا”.
دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخًا يزحف، فقال له: يا شيخ أيسرك أن تموت؟ قال: لا، قال: ولم وقد بلغت من السن ما أرى؟ قال الشيخ: ذهب الشباب وشرّه وبقي الكبر وخيره، إذا أنا قعدت ذكرت الله وإذا قمت حمدت الله فأحب أن تدوم لي هاتان الخصلتان. يقصد بذلك أن يزيد رصيده الباقي عند الله.
فما أكثرهم الذين ضيّعوا أعمارهم في ساعات اللهو واللعب، وما أكثرهم الذين يسمعون داعي الله يناديهم للصلاة والفلاح، حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يستجيبون، وما أكثرهم الذين يقضون مجالسهم بالقيل والقال ومع أصدقاء السوء دون أن يزيدوا رصيدهم، بل ما أكثرهم الذين يقضون أيامهم ويضيّعون أعمارهم للكسب والرزق ليزيد رصيد أبنائهم وليضمنوا مستقبلهم فينسوا أنفسهم، فلا يزيد رصيدهم ليوم لقاء ربهم فيستفيدون هم به بينما يسألون عنه هو يوم القيامة.
كم عمرك؟
إذا ما سئل أحدنا عن عمره فإنه يجيب بحساب تاريخ الميلاد وسجّلات المكاتب الحكومية، فيقول: عمري اليوم ستون سنة أو خمس وأربعون أو ثلاثون أو ثلاث وسبعون وهكذا، إنه يحسب عمره بذاكرة الأيام وليس بميزان الإيمان، وبسجّلات موظف الحكومة وليس بحساب الكرام البررة. وقد قال في ذلك ابن القيم رحمه الله: “فمن كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا في حياته، وإن عاش عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله”.
قيل لشيخ كبير كم أتى عليك؟ أي كم عمرك؟ فقال عشر سنين. قيل: كيف وأنت شيخ كبير؟ قال: أنا منذ عشر سنين من التوابين! إنه يقصد أن ما يحسبه من عمره هو الذي قضاه في طاعة الله فقط، وأما الذي ضاع في اللهو وقبل التوبة، فإنه ليس في حسابات عمره وهو ما سيندم عليه يوم القيامة لأنه ضيّعه في غير طاعة. وما أجمل ما قاله الشاعر:
تزوجت البطالة بالتواني فأولدها غلامًا مع غلامه
وأما الابن سمّوه بفقر وأما البنت سموها ندامة
ولطالما ذكّرنا بقصة ذاك الرجل الذي انتبه وإذا به قد بلغ من العمر ستين سنة، فوضع رأسه بين كفيه وقد حسبها بالأيام فإذا هي 21500 يوم، فقال معاتبًا نفسه لو أنك لم تذنب في اليوم إلا ذنبًا واحدًا فإنك بذلك ستأتي ربك بـ 21500 ذنب يوم القيامة؟ ويحك ماذا ستقول لربك؟
ماذا تتمنى أن يكون معك في قبرك؟
إن العاقل هو ليس من يبني لدنياه وإنما الذي يبني لآخرته، لأن الذي يبني لدنياه فإنه سيذهب وما بناه وليس هذا فعل العاقل. وأما العاقل فإنه الذي ينظر إلى كل من بنوا لدنياهم وكم كانت خسارتهم، فيتعلم الدرس فيبني لآخرته:
يا عامر الدنيا على شيبه فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عذر من يعمر بنيانه وجسمه منهدم يخرب
أليس من أعجب العجب أن ينظر الإنسان إلى نفسه وقد شاب شعره وضعف بصره وأصبح له أولاد بل أحفاد، ويرى من حوله كل يوم يتناقصون فيموت من الأقارب ومن الأصدقاء ومن الصغار والكبار ومع ذلك يظل سادرًا في غيّه وكأنه سيعمر ما عمّر نوح عليه السلام، مع أن رسول الله ﷺ قال: “أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك”.
وإذا كان الإنسان إذا مات فإنه يشيّعه أهله ثم يرجعون بعد دفنه، وأما المال فيبقى في البيت في انتظار من يبادر بتقسيم التركة، ولا يكون مع الإنسان في قبره إلا عمله فعندها يتمنى لو استزاد من ذلك العمل الصالح.
الغريب أن أناسًا قد عميت بصائرهم لكثرة معاصيهم وقد تربعت الدنيا على قلوبهم، فإنهم وحتى في ساعات أحوج ما يكونون إلى التوبة والعمل الصالح وسؤال الله حسن الخاتمة، وإذا بالواحد منهم يتمنى أمنيات عجيبة فيما يريد أن يكون معه في قبره.
يقول الدكتور حسان شمسي باشا: “أعرف رجلًا مسنًا يعشق الشيشة -النرجيلة- ويهوى الطرب، فإنه قد أوصى أبناءه قائلًا: إن أنا متّ فأنزلوا في قبري الشيشة والعود الذي أعزف عليه. فهل يا ترى سيطرب في قبره ويقول أوف أوف، أم أنه سيقول عن أبنائه الذين نفّذوا وصيته أف لكم؟”.
أو كالذي أوصى أن يدفن إلى جانب جذع شجرة عنب” كرمة” ليظلّ يحتسي الخمر من عصير جذورها لأنه كان مدمن خمر والعياذ بالله، فقال:
إذا أنا متّ فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني أخاف إذا متّ لا أذوقها
دونك ليلة القدر
نحن بين يدي ليلة القدر الليلة المباركة الشريفة الليلة التي هي خير من ألف شهر، كما قال ربنا سبحانه في وصفها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِوَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} إنها ليلة نزول القرآن الكريم.
هذه الليلة التي أوصى النبي ﷺ في سنته الشريفة بقيامها بالعبادات والقربات لضمان أن بذلك يغفر الله عز وجل من ذنوبنا ما تقدم منها لقوله صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له تقدم من ذنبه”.
والألف شهر التي ليلة القدر خير منها، تساوي ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر. ولأننا سبق وتحدثنا في السطور الماضية عن العمر وقيمته، فإن عبادة ليلة القدر تساوي عبادة عمر الإنسان كله وزيادة، لأن النبي ﷺ قد قال بأن متوسط أعمار أمته بين الستين والسبعين.
فها هي ليلة القدر بين أيدينا نلتمسها ليس فقط ليلة السابع والعشرين من رمضان بل لنا أن نتحراها في كل ليالي العشر الأواخر منه، كما قال ﷺ: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”. فأي خير عميم وفضل عظيم أن يَمنّ الله سبحانه علينا بليلة تعدل عبادة العمر كله. فكيف نضيعها وكيف لا نفعل ما كان يفعله ﷺ الذي كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
فدونكم ليلة القدر، فلا تغفلوا عنها وألحّوا على الله بالدعاء “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”. وادعوا لأنفسكم ولأهليكم ولمسجدكم الأقصى ولأمتكم لعل الله سبحانه يجعل لنا مخرجًا وفرجًا وبيقين أنه آت لا ريب فيه.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.