يجعل الموقع الاستراتيجي المتميز والموارد الطبيعية، المتمثلة في المياه والأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والمعادن، من السودان مسرحاً خصباً للصراع الدولي، في وقت يتزايد فيه التنافس بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين مع تحالف “بكين موسكو” على الهيمنة على النظام العالمي، خاصة بعد تفجر الحرب الأوكرانية وتداعياتها السلبية على الاقتصادات الغربية.
فالسودان، بما يملكه من ثروات، يُعدّ دولة في قلب التنافس العالمي على الموارد الطبيعية في أفريقيا بما تحويه من الذهب والمعادن الأخرى إلى البترول والغاز الطبيعي والمنتجات الزراعية والحيوانية، بينما تتيح الحرب الدائرة على الأرض بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، و”قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، مساحات أكبر لنفوذ المتنافسين دولياً.
وعلى صعيد الصراع على النفوذ في السودان، يمكن النظر إلى ثلاث دول رئيسية، هي روسيا والصين والولايات المتحدة، إضافة إلى دول الإقليم العربي والأفريقي التي تخدم مصالح هذه الدول بالوكالة.
ويرى معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن أن روسيا احتفظت بنفوذ مهيمن على السودان منذ انقلاب الرئيس جعفر نميري في العام 1971، ثم ضعف هذا النفوذ قبل أن يعود إلى القوة بعد وصول الرئيس السابق عمر البشير إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، إلى حين أطاحته الثورة في 2019.
وحسب دراسة المعهد، تنبع أهمية السودان الاستراتيجية بالنسبة لروسيا من موقع البلاد الجغرافي المهم على طول البحر الأحمر، حيث ترغب موسكو في الهيمنة على هذا المسطح المائي الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بآسيا، هو أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا بالسفن التجارية في العالم.
وبالتالي، من خلال نفوذها في السودان، تسعى موسكو لإعادة تأسيس وجودها في منطقة القرن الأفريقي لبسط نفوذها على البحر الأحمر، الذي يعتبر من الممرات المهمة للنفط والتجارة. وتعمل روسيا على بناء قوة بحرية في المنطقة والوصول إلى المحيط الهندي وربطها بمنشأتها البحرية في سورية.
وعبر وجود أسطول روسي في بورتسودان (شرقي البلاد)، تستهدف موسكو تعزيز نفوذها في السعودية ودول الخليج. وبالتالي، فإن موطئ قدم في السودان يوفر لموسكو مواقع في كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وهي خطوة مهمة في جهود روسيا لتصبح قوة بحرية عالمية لديها سيطرة على ممرات التجارة العالمية.
وكان للاتحاد السوفييتي سابقاً نفوذا كبيرا على طول البحر الأحمر في إثيوبيا والصومال وجنوب اليمن. ويتكامل الدور الروسي مع الدور الصيني، حيث تعمل بكين من جانبها على بناء نفوذ في السعودية ومنطقة الخليج في السنوات الأخيرة، وتقاسم النفوذ مع أميركا في منطقة الطاقة الحيوية في العالم.
ومعروف أن موسكو أصبحت من الدول الرئيسية في تحالف “أوبك+”، كما أن الصين أكبر مستورد للطاقة من منطقة الخليج بعد ثورة النفط الصخري.
وتشير دراسة معهد الشرق الأوسط إلى أن السودان يعد أحد أكبر أسواق الأسلحة الروسية في أفريقيا، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية بين روسيا والسودان 500 مليون دولار، ما يجعل من السودان ثالث أكبر شريك تجاري لروسيا في جنوب الصحراء الأفريقية. ويضاف إلى ذلك أن الشركات الروسية المدعومة بمليشيا فاغنر تعمل على استخراج الذهب في السودان وتصديره بصورة غير شرعية إلى الخارج. وهذه المجموعة متحالفة مع قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي.
كما تمارس موسكو نفوذها في معظم مناطق الساحل الأفريقي وليبيا من خلال مجموعة فاغنر. وعلى الرغم من أن فاغنر تشتهر بنشاطها الحالي في أوكرانيا، إلا أنها نشطة أيضًا في عدد من الدول الأفريقية، بما في ذلك بوركينا فاسو ومالي وتشاد وليبيا.
وتستغل موسكو في هذا النفوذ قائد قوات الدعم السريع حميدتي الذي أشرفت على تدريبه منذ سنوات.
وحسب مجموعة من الوثائق المتعلقة بأنشطة فاغنر في السودان نشرها مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد الدولي OCCRP حديثاً، تبين أن شركة الذهب الروسية دفعت ملايين الدولارات لشركة تديرها المخابرات العسكرية السودانية.
وجنت فاغنر أرباحاً طائلة من السودان. وتشير الوثائق إلى أن الجيش السوداني منح فاغنر الإذن بالهبوط في قاعدة عسكرية في الخرطوم واستخدام “رمز إشارة القوة الجوية لغرض العمل داخليًا وخارجيًا”.
كما منحها ترخيصاً لنقل الأسلحة إلى البلاد وإخراج الذهب من السودان بشكل غير شرعي ومن دون الإعلان عن أنشطتها في الذهب. ويرى خبراء سودانيون أن فاغنر صدرت نحو 25% من إجمالي صادرات الذهب السوداني بطرق غير شرعية في السنوات الأخيرة.
الدور الأميركي والزحف الصيني
وبينما كان لواشنطن تأثير محدود في السودان خلال العقود الأخيرة، إلا أن هذا بدأ يتغير بعد إطاحة البشير قبل نحو أربع سنوات، وبدأت البلاد في التحرك نحو الديمقراطية، وفق محللين. وتنظر واشنطن إلى السودان كلاعب سياسي مهم على الصعيد الإقليمي، ولديه موانئ استراتيجية وموارد طبيعية هائلة، مثل الذهب والنفط واليورانيوم.
وتسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى إغراء الخرطوم بالفوائد الجمة التي ستجنيها من التقارب معها وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وعلى رأسها الإعفاء من الديون، والمساعدات المالية والاستثمار. وترى إدارة بايدن في السودان ساحة معركة رئيسية في الصراع الأكبر ضد صعود موسكو الجيوسياسي في القارة الأفريقية، وتستهدف من خلال السودان محاصرة النفوذ الاقتصادي لبكين في أفريقيا.
كما يرى معهد الدراسات الدولية في كوبنهاغن أنه رغم انخفاض الصادرات النفطية السودانية بشكل حاد عندما انفصل جنوب السودان واستفرد بـ80% من موارد النفط في البلاد، إلا أن الصين لا تزال واحدة من الشركاء التجاريين الرئيسيين ومستثمراً نشطاً في العديد من القطاعات، بما في ذلك قطاع التعدين.
وبالنسبة لبكين، هناك الكثير من المواطنين الصينيين في السودان يعملون في البنية التحتية والخدمات، وكذلك في بقايا صناعة النفط. وكان السودان سادس أكبر مصدر نفطي أجنبي إلى الصين قبل فصل الجنوب، حيث وفر 5.5% من احتياجاتها.
ويرى محللون أن الموارد التي يحتوي عليها السودان المتنوعة، بين المعادن والنفط والمياه والزراعة، فضلا عن موقعه الاستراتيجي، باتت مهمة جداً للدول الأوروبية وأميركا والصين وروسيا، التي تبحث عن النفوذ والثروة في وقت تتراجع فيه مستويات المعيشة في أوروبا وتحاصر فيه الصين بصناعاتها الرخيصة الأسواق الغربية.
وعلى الصعيد الجغرافي، يعد السودان امتداداً طبيعياً لمنطقة القرن الأفريقي، التي تعتبر بكل المقاييس من مناطق العالم ذات الأهمية الاستراتيجية، التي تتبارى الدول الكبرى في الحصول على المزايا والمنافع فيها. وتتميز هذه المنطقة بأهمية خاصة بالنسبة للقارة الأفريقية، حيث إنها تمثل نقطة ارتكاز ومدخلاً إلى القارة الأفريقية، وهي مطلة على الجزيرة العربية.
فالسودان دولة مجاورة للدول النفطية في الخليج العربي، بالإضافة إلى دخول السودان الفعلي سوق النفط منتجاً ومصدراً، مع وجود شواهد بتوافر كميات هائلة من النفط يجرى استغلالها حالياً.
كما أن وجود السودان في قلب القارة الأفريقية يجعل منه دولة مهمة للنفوذ العالمي. فالدولة التي تملك النفوذ في السودان يمكنها حسم الصراع في ليبيا التي تملك موارد نفطية وغازية ضخمة.
كما يرى محللون أن الدولة المهيمنة التي تستطيع الهيمنة على المشهد السياسي في السودان ستتمكن من التحكم في المثلث الغني باليورانيوم، الذي يمتد من دارفور إلى جنوب ليبيا وشرق تشاد. وهو مثلث مهم لمستقبل الوقود النووي الذي تسيطر عليه روسيا حالياً، في وقت تواجه أوروبا أزمة طاقة، وذلك إضافة إلى أهمية اليورانيوم العسكرية.