السبت 14 اكتوبر 2023 11:53 م بتوقيت القدس
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مدخل..
هذه سلسلة من الأوراق في التحليل السياسي للحرب الدائرة بين المقاومة في قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي أتناول فيها الحرب من البعدين السياسي والمستقبلي معتمدًا في التحليل على مجريات الأحداث بالدرجة الأولى ويوميات الحرب وما يُكتب ويُصور عبر أدوات التواصل المختلفة إسرائيليًا بالدرجة الأولى.
ترمي هذه الأوراق لتحقيق ثلاثة أهداف، تعميق الوعي السياسي ورفعه، تعميق معنى الواقعية السياسية وفهم تعقيداتها، وقراءة المستقبل على أساس من الأحداث اليومية التي تشكل بتراكمها الأساس لفهم الراهن وقراءة المستقبل، والتأكيد على أن الظلم إذا وقع وتطاول الظلمة على الخلق، فإنهم إلى زوال مهما كانت قوتهم وعمق علاقاتهم، وقد كشف لنا القرن السالف عن ذلك، فضلًا عن أنَّ تساقط الأوراق عن دول تزعم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وعن المنظومات الدولية التي يتحكم بها مجموعة من الدول المسيحية المتواطئة مع إسرائيل. وهو ما سيؤسس لعالم جديد بدأت معالمه تتبدى مع بدايات الحرب في أوكرانيا . هذه الحرب لها ما بعدها محليًا وعالميًا وستؤسس لمستقبل جديد من الأهمية بمكان أن يستلهمه الإسلاميون ممن يؤمنون بالتمكين والدولة قبل فوات الأوان، فهذه الحرب فتحت لهم روزنة يجب استثمارها.
إسرائيل الخاسر الأكبر..
استفاق العالم يوم السبت على اقتحام المقاومة الإسلامية والوطنية في قطاع غزة تقوده حركة حماس عبر ذراعها العسكري، كتائب القسام، لغلاف غزة وحتى مدن أوفيكيم وسديروت، ورافق هذا الاقتحام عمل عسكري أربك الحكومة الإسرائيلية كما الجيش وأجهزة الأمن المختلفة، ولا يزال الوجود العسكري للمقاومة مستمرًا إلى لحظة كتابة هذه السطور، ليلة الخميس الفارط، رغم تصريحات الجيش تنظيف الغلاف والمدن المذكورة من المقاومين، بل ونقلت القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية عن وجود قوة للمقاومة في مدينة ديمونا حيث المفاعل النووي الإسرائيلي، وهو ما يعني أن المقاومة تملك من القوة والجاهزية ما يمكنها أن تباغت الجيش الإسرائيلي ومختلف الأجهزة العاملة معه بما في ذلك القوة القادمة لدعمه من الغربيين والأمريكيين على الرغم من الحصار المطبق على القطاع.
في سياق الدراسات العسكرية، فإنَّ العملية التي نفذتها المقاومة فجر السبت وإلى هذه اللحظات، عرت إسرائيل الدولة والأجهزة الأمنية المختلفة والجيش، كما عرت لاحقًا البعدين النفسي والأخلاقي للمؤسسات السياسية والإعلامية، وهو ما ترك المواطن العادي خالي الوفاض، مهيض الجناح، متوجس خيفةً دفعته للارتماء بحضن المؤسسة ومقولاتها المطلقة التي أعلنت عن حصار شامل شَمِلَ قطع الماء والكهرباء والأدوية ومتعلقات الصحة والغذاء، ومنع دولًا كمصر من فتح المعابر لإدخال الماء والغذاء والمتطلبات الصحية فضلًا عن الكهرباء. ومع كل ما ذكرت، فإن إسرائيل خسرت عمليًا الحرب مع المقاومة وكانت الخسارة فادحة ومدوية ومخزية تداركها نتنياهو بذكائه السياسي بتوريط غانتس ومن معه من العسكريين في هذه الحرب والجرائم الخطيرة التي ستتحمل مسؤولياتها لاحقًا شخصيات بعينها، إذ الحماية الأمريكية والأوروبية الرسمية لن تحمي القتلة خاصة مع التحولات الجارية في المنطقة هذا إلى جانب تعرية القوة الإسرائيلية وأنها لاعب أساس في المنطقة بعدئذ تدخلت واشنطن لستر سوءتها والتغطية على فشلها الذريع.
لفت انتباه المراقبين الاتصال الذي أجراه نتنياهو لبايدن، وقيل العكس، طلبَ فيه نتنياهو الدعم الأمريكي حيث كشف عن حجم الأزمة التي اعتورت الدولة وأجهزتها المختلفة .هذا الاتصال تحول بعد ذلك إلى تبنٍ أمريكي وغربي كامل للحكومة الإسرائيلية وإعطائها الضوء لتدمير القطاع مترافقًا مع حضور عسكري أمريكي مؤهل وقيادات عسكرية أمريكية وأسطول أمريكي عملاق وتبادل للحديث شبه يومي بين نتنياهو وبايدن، وهذا الوضع المأزوم إسرائيليًا دفع الجيش بحملة تدميرية شاملة على القطاع شملت كل البنى التحتية والصحية والحضارية والثقافية أبانت حجم الخلل الإسرائيلي المُغطى والمحمي عالميًا . في هذه الأثناء هدد بايدن الحكومات العربية وطالبها المضي بما يطلبه منها، كان من ذلك انتقاد المقاومة على تجرئها غزو إسرائيل وما رافق هذا الغزو، وانبرت أبواق المثقفين التابعين لهذه الأنظمة لدعم مواقف حكوماتهم .. وفيما الدول العربية تنتقد وتصدر البيانات، كانت الطائرات الإسرائيلية ترتكب جرائم حرب في غزة تنفيذًا لخطاب جالانت المسمى بـ “خطاب الحيوانية” حيث ساوى أهل القطاع بالحيوانات والهمج وأنه يجب التعامل معهم بالمثل، وهي مقولة من مقولات جرائم الحرب.
خطاب بايدن أيام الثلاثاء والأربعاء، كان واضحًا في الدعم المطلق لإسرائيل على الاستمرار بتنفيذ مجازرها المدنية والبشرية في القطاع، وبان موقفه المنحاز والمتواطئ مع الاحتلال وسياسات الأرض المحروقة. يشكل خطاب بايدن لحظة مهمة في فهم الحرب ومداراتها وكيف ستنتهي وفقًا للسيناريوهات الإسرائيلية الأمريكية. فالخلاصات محو المقاومة عن الخريطة لخلق واقع جديد في منطقة الشرق الأوسط، إذ بطي صفحة حماس يكون قد أسدل الستار نهائيًا، هكذا يظنون، على المشروع الإسلامي السياسي ممثلًا بالإخوان المسلمين.
حتى كتابة هذه السطور الجيش الإسرائيلي يعمل ليل نهار على تدمير القطاع، والقيادة الأمريكية تتحدث بصراحة عن تحرير الرهائن الأمريكيين من جهة وفتح مسارات آمنة لحملة الجنسيات غير الفلسطينية من المتواجدين في القطاع وقياداتها، تهدد ليل نهار كل من سيتجرأ على مساعدة القطاع بأي شكل كان تمهيدًا لتدمير القطاع وتسويته بالأرض دون أدنى حساب للمدنيين. ففي العقل الباديني والإسرائيلي كل ساكنة القطاع أهدافٌ مشروعة، وهو وإن كان فيه خطورة كبيرة على سكان القطاع فهو وصفة مستقبلية لما سيدور من حروب ومعارك.
الرسائل
بادين أعلن من البيت الأبيض الحرب على غزة وأهلها من مدنيين وذلك لأسباب كثيرة منها ما له علاقة في صلب المشروع الصليبي في المنطقة، وما يتعلق بالانتخابات الأمريكية، وما له علاقة بالولاء لليهودية على أساس من السياقات الانجليكانية وما له علاقة بالصراع الأممي القائم بين واشنطن وموسكو.
الرسالة الأولى: نتنياهو يعلن حربًا على غزة سعيًا منه لمحو عاره يوم السبت بصفته المسؤول الأول عن الجيش وأجهزة الأمن المختلفة، وهو في هذا الإعلان يقول للعالم أن حماس جيش له دولة تمامًا كحال إسرائيل الجيش الذي له دولة وقد تمَّ تمريغ الجيش بالتراب مما تطلب تدخلًا أمريكيًا ولاحقًا غربيًا لحماية الدولة وتزويد الجيش بمزيدٍ من الآليات وأسلحة الموت.
الرسالة الثانية: والمتعلقة بالحرب والإعلان عنها ستنتهي باجتياحٍ شامل لقطاع غزة من أجل ترميم ما تهدم من هيبة الجيش والمخابرات، ومن أجل هذه الخطوة تمَّ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والتواصل الأمريكي مع إسرائيل على أعلى المستويات، وهو ما سيكون له تداعياته الكبيرة وكلها سيئة بالنسبة للاحتلال، فالاجتياح المطلق واحتلال غزة يتطلب سياسات مرافقة محلية وإقليمية ودولية، وهو ما لا يمكن الموافقة عليه كما يرشح من التصريحات من جهة والبقاء في غزة ستكون كلفته عالية جدًا، وترك الأمور كما كانت سابقًا يعني فشلًا ذريعًا للسياسات الإسرائيلية الأمريكية، إذ عودة حماس ستكون أقوى وستدخل سلطة رام الله في حرج شديد فلسطينيًا وعربيًا.
الرسالة الثالثة: أن التدمير الشامل للقطاع رسالة إلى كل من تسول له نفسه التطاول على إسرائيل ـ لكن نتنياهو وزمرته العسكرية غابت عنه ثلاثة أمور كبرى، أن إسرائيل دولة خسرت حربها مع المقاومة، وأنها بتدميرها الشامل للقطاع بموافقة أوروبية -أمريكية تقول للفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمين، أن التعامل مستقبلًا بالمثل مقبول بل ومطلوب ولا مكان لذر الرماد بالعيون في مواضيع حقوق الإنسان والقانون الدولي، فالقوة، والقوة فقط هي الحكم الفصل، ولأن المقاومة طورت خلال عقدين أدواتها القتالية بشكل ملفت للنظر، فإن سيناريوهات الحرب المتعلقة بهذه الحيثية مفتوحة على كل الأبواب راهنًا ومستقبلًا، ولن يجرؤ العالم بانتقادهم إذا ما تم قصف مكثف مماثل لما تقوم به إسرائيل في غزة لمدن مركزية مثل تل أبيب المدينة التي تعج بالحياة وتعبر حقيقة عن إسرائيل.
الرسالة الرابعة: وفيها نتنياهو عمل على النجاة من محرقة سياسية تنتظره عقب انتهاء هذه الحرب المدمرة، فنجاحه في ضم غانتس ومجموعته إلى حكومة ” شبه وطنية ” ومنح غانتس ومن معه من العسكريين قسيمة المشاركة في المجلس المصغر لإدارة الحرب رسالة، وإن كانت موجهة بالدرجة الأولى للمواطن الإسرائيلي ليطمئن، فهي أيضًا تصل إلى الفلسطيني المراقب الذي يدرك أن هذه الحكومة ستخوض حربًا قذرة جدًا تكلفتها الفلسطينية هائلة، تذكرنا بما حدث في البوسنة والهرسك وستكون معادلتها وفقًا للشعار المرفوع من لدن المقاومة “نصرٌ أو استشهاد”، وهذه العقيدة ستواجَه إسرائيليًا وأمريكيًا، إذ الولايات المتحدة متورطة بالكامل في هذه الحرب التي تستهدف الإنسان والحجر والشجر بواحد من ثلاثة سيناريوهات، أن تدفع إسرائيل التكلفة بالكامل خاصة وأنهم يعترفون بمقتل أكثر من 190 جنديًا حتى هذه اللحظات، فلا بأس أن يُقتل عدد مضاعف من الجنود الإسرائيليين بثمن إنهاء وجود المقاومة وسيتم امتصاص الغضب الإسرائيلي الداخلي، فيما سيُترك القطاع وحيدًا يلعق جراحه أو يخضع للوصاية المصرية أو لمجموعة فلسطينية ليس بالضرورة تتبع سلطة رام الله، أو تتوقف الحرب عبر تدخل دولي يضع القطاع تحت الوصاية الدولية مرحليًا في إعادة لسيناريو البوسنة وكوسوفا وستكون المقاومة عندئذ في وضع لا تُحسد عليه. فإن كانت الوصاية تمهيدًا لاستقلال شامل تحت رقابة أممية تُهيِئهُ لذلك خاصة وقد استمعنا لتصريحات بوتين الأربعاء في مؤتمر الطاقة وموقفه مما يجري في القطاع، فإن التكلفة التي دُفعِت ستكون محل جدل فلسطيني كبير، أو إعادة الحكم العسكري إلى القطاع بإدارة مدنية والتعامل مجددًا مع سلطة رام الله للعودة إلى القطاع لتحكم من جديد على أساس من فلسفة دايتون في الحكم وفقًا لسياسات السلطة في الضفة وتعاملها مع حماس ومن يدور في فلكها.
الرسالة الخامسة: إلى الغرب، إذ يشبه المقاومة بداعش حيث اجتمع الغرب ومعه الأتباع بحده وحديده لمحق تنظيم الدولة في ملمح إسرائيلي إلى أنهم سيستعملون كافة الأساليب والأدوات المحرمة دوليًا، وهو ما يعني مستقبلًا أن السياسات ستكون بالمثل والعين بالعين، إذ محو التنظيمات شبه مستحيل وداعش الذي يسعى لربط المقاومة بها لحرف العالم عن جرائمه في القطاع حيٌ وينمو في المناطق التي هُزم منها.
خلاصات..
تمارس إسرائيل ومعها القوى الغربية، الولايات المتحدة في الدرجة الأولى، بمعاقبة ساكنة قطاع غزة بالكامل وتعمل على إيجاد معابر آمنة لخروج غير الغزيين من غزة تمهيدًا واستعدادًا لحرقها على من فيها …ولتحقيق هذه المحرقة ثمة حاجة لحكومة شبه وطنية تقود هذه الحرب وتتحمل لاحقًا مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية والسياسية، فالنجاح سيكون لنتنياهو والفشل سيكون لغانتس ومجموعته، إذ نتنياهو بات يؤمن بهدم المعبد على من فيه. القطاع مُقدم على اجتياح بري تحت حماية أمريكية أوروبية وصمت عربي، ويترافق هذا العمل بعمليات تدمير شاملة للقطاع مصحوبًا بمساع استخباراتية أمريكية وأجنبية وعربية هدفها تحرير الرهائن قبل الاجتياح أو أثناء الاجتياح في إطار عملية عسكرية نوعية تهدف لتحريرهم.
الاحتلال وخلفه المنظومة الأوروبية والأمريكية يشجعان إسرائيل على هذه الحرب ويطالبون العرب وتركيا أن يكونوا كلب الحراسة الخارجي لهذه الحرب والتفاوض مع قيادات حماس في الخارج لإقناع المقاومة بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ومن يحملون الجوازات غير الإسرائيلية فضلًا عن الإسرائيلية.